مع تزاحم الافتراضات حول الاتجاهات المستقبلية للشرق الأوسط، فإن رسم الصورة الدقيقة للمنطقة مستقبلا أمر في غاية التعقيد، فكيف يمكن رصد الواقع في وقت تشخص امامنا المظاهر التالية:
1- رئيس أمريكي يصدر عشرات التصريحات المتناقضة أو الكاذبة يوميا، ولديه غرور وعدم توازن نفسي لم نعهده مع أي رئيس أمريكي منذ وجود الولايات المتحدة قبل أكثر من قرنين ونصف، مكابر حتى في أشد هزائمه وضوحا، كما في حربه التجارية مع الصين.
2- إقليم شرق أوسطي هو الأعلى في معدلات عدم الاستقرار بين أقاليم العالم التسعة، ومع ذلك يخرج علينا زعماء هذا الإقليم كل منهم يرفع رايات الحكمة والنصر والمهابة.
3- تغلغل خارجي في الإِقليم يعيد صياغة بناه يوميا، بدءا من برامج القادة الشباب الأمريكي لصناعة نخب المستقبل الموالية إلى الترابط الاستخباري والقواعد العسكرية وصولا للتنسيق السياسي الاستراتيجي والمساعدات المادية المغرضة مع أي طرف خارجي إلا بين الاطراف الاقليمية ذاتها.
4- بنية إقليمية ذات تركيبة اجتماعية قائمة على مزيج من الثقافات الفرعية (الدينية والمذهبية والقومية واللغوية والجهوية والقبائلية) وتختزن كل منها ذاكرة تاريخية تجعل من اللاوعي السلبي هو الموجه المركزي لسلوكها.
5- أنظمة سياسية عربية سنامها الاجهزة الخشنة، وتقف على راس قائمة دول العالم في الانفاق العسكري من ناحية والفساد من ناحية ثانية.
إن الصورة السابقة تشكل الهاجس المركزي لإسرائيل، فكيف يمكن التعامل مع هذا الواقع لضمان أكبر قدر من المكاسب لإسرائيل، أو أقل قدر من الخسائر لها.؟
إن التشبث بالأحداث أو الاتجاهات الفرعية المتناثرة في صفحات السجل السياسي للمنطقة لا يجدي، لذا فان إسرائيل معنية «بالاتجاه الأعظم» الذي تحقق فيه إسرائيل انتصارات واضحة ومتراكمة رغم ان البعض منها كان له ثمن ثقيل للغاية على إسرائيل كما جرى في المعركة الأخيرة مع إيران أو في بداية الطوفان أو حرب أكتوبر 1973 أو معركة الكرامة 1968…الخ،
لكن ذلك لا يخفي المشهد التالي:
1948- 1967: كان الهدف العربي هو تحرير فلسطين
1967-1973: تراجع العرب باتجاه الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود (قرار 242 لمجلس الأمن)
1973-1977: تفكك جبهة الصمود والتصدي، زيارة السادات للقدس كإقرار تام من أكبر دولة عربية بإسرائيل.
1979-الآن: توالت الاعترافات العربية بإسرائيل بشكل متسارع، تلاه التضييق على كل اشكال المقاومة، تفكيك محور المقاومة وإحداث تحولات جذرية في بنيته (بخاصة حزب الله والحشد الشعبي)، ثم تغيير النظام في سوريا بنظام يستعد لركوب قطار التسوية، بدأ بتحرير الشام التي تشكل فلسطين جنوبها، ويستعد الآن –طبقا لكل التقارير الغربية والإسرائيلية – ليكون طرفا في اتفاقات ابراهام.
ذلك يعني أن الانشغال العربي بنصر هنا او هناك في معركة عسكرية او تصويت في المنظمات الدولية أو حراك في البيئة الدولية …الخ لا يجوز ان يشكل المنهج الفكري لقراءة المستقبل، فالرصد يجب ان ينصب على «الاتجاه الأعظم» فالعبرة بالنهر لا بالسواقي.
ولكن، هل يعني الاتجاه الاعظم انسداد الافق لتغييره؟ لا أعتقد انني قرأت لاي باحث في الدراسات المستقبلية رأيا يتبنى هذا الاستنتاج، أي أن الأمر لا يعني أن الاتجاه الاعظم قدر لا فكاك منه، بل هو القاعدة للتخطيط المستقبلي لتغييره، وهو ما يفعله الاسرائيليون الآن، لا لتغيير الاتجاه الأعظم بل لتعزيزه من خلال رصد الاحتمالات التي «قد» تضع الأسس لتحول هذا الاتجاه الاعظم لغير الصالح الإسرائيلي، فما هي هواجسهم المستقبلية؟ والهاجس المستقبلي يجري التعامل معه كاحتمال (لا كيقين)، ولكن الهدف من التعامل معه هو كيفية اضعاف احتمالاته الى اقصى درجة ممكنة إذا كان ذلك الاحتمال لغير صالحي أو تعزيزه إذا كان لصالحي ليتعزز به الاتجاه الأعظم، وتتمثل الاحتمالات المستقبلية المقلقة والسلبية للسلطة والنخب الصهيونية دينية أو علمانية في الآتي:
لو توقف القتال في غزة، وتم عقد اجتماع لمجلس الأمن الدولي، واقر بالإجماع حق الفلسطينيين في اقامة دولة مستقلة لهم (اي حل الدولتين)، وأن يصدر القرار تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وهنا يتساءل العقل الصهيوني هل من مؤشرات على ذلك (مهما كان احتمالها ضعيفا)؟
أ- مساندة الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين و145 دولة لهذا الأمر، إضافة إلى اتساع قاعدة التأييد لذلك حتى داخل الحزبين الامريكيين الديمقراطي والجمهوري، وهنا قد يشير البعض بأن حل الدولتين أصبح غير قائم في ظل الاستيطان والتأييد الأمريكي …الخ ، ولكن التحليل العلمي في الدوائر الاستراتيجية يعمل طبقا لقاعدة مستقرة في الدراسات المستقبلية هي المتغير قليل الاحتمال عظيم التأثير (Low Probability-High Impact)، حيث لا يتم اغفال الاحتمال القليل لأنه لو حصل فانه عظيم التأثير، فالإسرائيلي يعلم ضعف الاحتمال ،ولكن ماذا لو حصل؟ إنها قاعدة IF-Then.
ب- ماذا لو تغيرت السياسة الأمريكية باتجاه أقل مناصرة لإسرائيل، فمثلا ماذا لو فاز مثلا مرشح مثل بيرني ساندرز (الذي حصل على المرتبة الثانية في ترشيحات الحزب الديمقراطي الرئاسية في عامي 2016 و2020) وهو الأكثر نقدا للسياسات الإسرائيلية رغم أنه «يهودي الدين»، كما أن ما يعزز هذا الاحتمال أن نسبة التأييد لإسرائيل بين الشباب الأمريكي تتراجع في كل استطلاعات الراي، وهو ما يعني أن هذا القلق من هذا الاحتمال مهما كان ضعيفا لكنه مبرر تماما طبقا لقوة تأثيره لو حدث مستقبلا.
ج- ماذا لو تغير النظام السياسي في دولة عربية مركزية، وعادت القيادة الجديدة للموقف العربي التقليدي من إسرائيل، ونظرا لأن تغير الحاكم في الدول العربية يعني احتمال انقلاب سياسات الدولة كليا بحكم الاستبداد القار في بنية هذه النظم، فأن الامر سينطوي على تأثيرات عميقة لا يجوز الاستهانة بها.
هـ- ماذا لو ان تنظيما من تنظيمات المقاومة تمكن من امتلاك سلاح غير تقليدي (نووي او كيماوي او جرثومي أو سيبراني.. الخ)، وأصبح قادرا على ابتزاز قوى كبرى به، ويقر نسبة كبيرة من علماء التكنولوجيا ان هذا الاحتمال ليس ضمن «قليل الاحتمال» بل كبيره، وليت الباحثين يعودون لمؤتمر باريس 1989 لمنع انتشار الأسلحة الكيماوية ليدرك أن الأمر أكبر من الاحتمال القليل، فالتكنولوجيا التي أوصلتنا لصناعة مسيرات للتجسس بحجم البعوضة تجبرنا على التفكير خارج الصندوق، وهو ما يفكر به الإسرائيليون.
و- دعونا نذهب بخيالنا ابعد (كإسرائيليين)، ماذا لو ان ظروفا دولية معينة جعلت السلاح النووي أو غير التقليدي سلعا (فمثلما انتقلت الخبرة والمواد الأولية قد ينتقل المنتج)، وأصبح «بيع» الاسلحة غير التقليدية أمرا متداولا، كأن تبيع كوريا الشمالية إيران سلاحا نوويا مقابل تزويد كوريا الشمالية بحاجتها من النفط لمدة 20 او 30 سنة؟ فمن يبيع أو يساهم في انشاء المفاعلات النووية، ما الذي يمنعه لاحقا وفي ظروف معينة ان يبيع السلاح النووي، ويكفي الاشارة الى ان العالم عرف دولة نووية واحدة حتى الحرب العالمية الثانية، الآن هناك تسعة دول نووية، وأكثر من عشرين دولة قادرة على انتاجها بيسر شديد إذا قررت ذلك. إن مشاعية التكنولوجيا وانتقالها يجعل من وصول التنظيمات التي ستجد حتى من كبار العلماء من هو مستعد للتعامل معها إمكانية لتحقيق ذلك الهدف.
ز- أن ظروفا معينة تفتح احتمالا -مهما بدا ضعيفا- لحرب أهلية بين الإسرائيليين، فقد تواجه إسرائيل ظروفا تدفع لصراع داخلي قد يصل حدود الحرب الاهلية، فمثلا ماذا لو قرر حزب حاكم في إسرائيل وتحت ضغوط دولية قبول حل الدولتين (مهما كانت الدولة الفلسطينية المقترحة)، وهو ما يعني تفكيك المستوطنات وإخلاء حوالي 800 ألف مستوطن، واغلبهم من المتدينين، أليس ذلك احتمال بأن نصل إلى حرب أهلية؟
المستقبل في التاريخ:
لنفكر بطريقة التنبؤ العكسي (Back cast)، لو قال أحدهم بعد مؤتمر الرباط او الخرطوم بعد النكسة للقادة العرب ماذا لو اعترفتم مستقبلا بإسرائيل واحدا تلو الآخر؟ ماذا لو قلنا لمنظمة التحرير والأردن بعد معركة الكرامة ستعترفون بإسرائيل؟ ماذا لو قيل لصدام وهو يزهو على شواطئ الكويت بنصره أنك في طريقك لحبل المشنقة؟ ماذا لو قلنا للجزائر أن الانتخابات الديمقراطية النزيهة ستأخذكم الى عشرية سوداء دامية؟ ماذا لو قلنا لحسن نصر الله ستغادر هذا العالم وتترك حزبا سيتخلى عن كل ما وعدت به خطوة خطوة؟ لقد قال شاه إيران لمحمد حسنين هيكل في مقابلة صحفية وبثقة مطلقة أنه “تجاوز امتحان الشعوب”، أي أنه باق في السلطة ولا يكدره شيء، شهور قليلة وكان يتسول بحثا عن مأوى، بل حتى الولايات المتحدة سنده الرئيسي لم تمنحه حتى ذلك المأوى ولا حتى العلاج.
نعم ان التحليل السياسي يجب أن يرتكز على الاتجاه الأعظم، لكن إغفال «قليل الاحتمال – عظيم التأثير» أو القفز عن قانون البجعة السوداء (أي التغير المفاجئ والذي لم يتم اعتباره حتى قليل الاحتمال) يخرج التفكير الاستراتيجي عن أصوله العلمية، وإسرائيل حريصة على تلك الأصول بغض النظر عن منظورنا المعياري لذلك التفكير الإسرائيلي.