د. ياسر عبد التواب يكتب: اتفاقيات التقسيم السرية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
أما بعد، فإن الأمة ابتليت بكيد أعدائها وتخطيطهم، في زمن غفلت فيه هي عن نفسها ولا تزال غافية غافلة، فكان أن اهتبل الأعداء الفرصة واغتنموا الغنيمة الباردة.
وهكذا بكل ثقة يدفعها الحقد والمصالح الذاتية، اقتسموا خيراتنا فيما بينهم عقب هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى؛ فبدلا من أن تنتهي الحرب بالهزيمة فقط فتكون عواقبها الخزي وتحمل التكاليف وما أشبه ذلك، إذ بنا نجدهم تمالئوا فاقتسموا بلادنا كاقتسام الأكلة طعامَهم وتداعيهم عليه.
وبين الحقد واغتنام المال تمت الصفقات:
اقتسام من لا يملك لما لا يستحق. فقسموا على أنفسهم بلادنا وخيراتنا؛ ولله تعالى الحكمة، وله الأمر من قبل ومن بعد. فكيف يهدي الله تعالى قوما غفلوا عن نصرة دينهم، وانكفأوا على خلافاتهم الشخصية ومكاسبهم الضيقة بين عرب وأتراك، وتيههم في دهاليز التصوف الأعزل، أو الانفلات من الدين والإعجاب بالأعداء وتعاونهم معهم. ولئن شاع لدى الناس بعض الاتفاقيات كـ(سايكس بيكو) أو (وعد بلفور)؛ إلا أنها في الحقيقة مجموعة من الاتفاقيات المختلفة كلها تحمل نفس المعنى: أن القوم خططوا لاقتسامنا وتقسيمنا حتى لا تقوم لنا قائمة.
ولو تأملت في تواريخ الاتفاقيات لوجدت أنها تشير إلى قبل انتهاء الحرب بحوالي سنتين، نعم سبحان الله هكذا خططوا قبل حسم الصراع لصالحهم، فإن انجلى الأمر على ما يحبون كانوا جاهزين لما بعد النصر، ولئن كانت الأخرى فلم يخسروا شيئا من أحلامهم ورغباتهم، بل سيصبرون ويعاودون الكرة ويخططون مرة أخرى! فالخلاف هو مع الخلافة الإسلامية كمبدأ خلاف وعداء، مع اتحادنا -على ضعفنا وقتها- ومع ديننا وحضارتنا وثقافتنا.
إنها حلقة من حلقات الصراع:
كان التخطيط فيه هو البطل، وكانت أراضينا ومواردنا هي الثمن؛ ونحن ندفع ثمن غفلتنا وقلة تخطيطنا، وكل ذلك من الأسباب التي أمرنا أن نأتي بها. هل نحتاج إلى التذكير برحلة الهجرة وما كان من تخطيط دقيق لها، أم بدولة الإسلام الفتية وتخطيطها بكل سبل النهوض، بدءًا بالإيمان ورسوخه، مرورا بالمسجد ودوره، وانتهاءً ببعث البعوث وخوض الحروب.
فإن كان ثمة درس من هذا فإننا نقول:
إن الأمم التي تهيئ الأسباب تنهض وتنتصر… فهلا فعلنا؟ خذ مثلا: جماعات اللوبي داخل المجتمعات الأوروبية إنها بأموال قليلة لا تساوي ما تنفقه أسرة ثرية من أسر المسلمين تستطيع أن تتحكم في ترشيحات الساسة بدعم بعض المرشحين والدفع باتجاه نصرة قضاياها، جماعات يهودية، وجماعات يونانية، ولا توجد جماعات ضغط إسلامية.
وخذ مثلا آخر:
الفضائيات؛ فكل من هب ودب له فضائية ولا توجد فضائيات تصل للشرق كالصين واليابان، ولا للغرب تحمل فكراً ناضجا، وتنقل صورة واضحة سليمة عن حضارة الإسلام وصفات المسلمين، وتقول كلمتها بلغة القوم وباحتراف عالٍ. وإنما يوجد لدينا فضائيات إما تعبر عن الانبهار بالغرب ومستنقعاته الفكرية والشهوانية، أو فضائيات محترفة لكنها علمانية أو مختلطة لكنها لا تتكلم إلا بلغتنا.
فهلا أنفقنا على فضائيات ربما ردت عنا كيد من يسيء الظن بنا؛ فالإنسان عدو ما يجهل، والله تعالى أمرنا أن نوصل كلمتنا لمن لا يعلمها فتكون إعذاراً ودفعاً عنا.
قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]،
فتأمل في قوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}، وقوله: {لا يَعْلَمُونَ}.
الآن دعنا نستعرض تلك الاتفاقيات لنتعرف أكثر على كيفية تعامل القوم مع معطيات اللحظة، وكيف حاولوا تجاوز الخلافات من أجل الهدف الأكبر… تقسيمنا.
لمحة تاريخية:
تكالبت الدول الاستعمارية على ميراث الدولة العثمانية (المريضة)، فاحتلت إيطاليا ليبيا عام 1911، وانضمت بذلك إلى زمرة الدول الاستعمارية واقتطع جزء عزيز من جسد أمتنا العربية والإسلامية، وفعلت فرنسا وإنجلترا الشيء نفسه في أملاك الدولة العثمانية في أوروبا وآسيا وأفريقيا مما اضطرها إلى التحالف مع ألمانيا خلال الحرب الاستعمارية الأولى لتوقف النهب الذي تمارسه فرنسا وبريطانيا لأراضيها؛ وخاضت بالتالي معارك في سوريا ولبنان والعراق وفلسطين، وأصبحت واقعة بين نيراني الدول الأوربية الاستعمارية من الخارج والثورة العربية من الداخل والتي قادها الشريف حسين والعرب الذين خدعتهم إنجلترا ومنَّتْهم بالاستقلال بعد انتصارها على الألمان، وكان بطل الخديعة لورنس العرب.
في هذه الأثناء زاد الروس من إحكام سيطرتهم على حقول النفط في أذربيجان تحسبا لثورة سكانها المسلمين، ونزلت القوات البريطانية شط العرب في العراق وبعد مقاومة عنيفة من الأهالي، وبفضل المدد الذي جاءها من مستعمراتها في شبه القارة الهندية استطاعت هزيمة الدولة العثمانية ودخول بغداد عام 1917م، وحشد أفراد الشعب العراقي للقيام بأعمال السخرة خدمة للمجهود الحربي.
ووقف الأمير فيصل بن الحسين مع الإنجليز حينما أغراه لورنس العرب بنقل الخلافة من الأتراك إلى العرب، وفى الخفاء كان يتم اقتسام الغنيمة فكانت اتفاقية (سايكس- بيكو) عام 1916 التي تقاسمت بموجبها إنجلترا وفرنسا عالمنا العربي.
وتستمر الأحداث وتفرض الحماية البريطانية على مصر، ويدخل الإنجليز بقيادة الجنرال اللنبي إلى فلسطين، ويحتل القدس الشريف تمهيدا لتنفيذ وعد بلفور على أرض الواقع بفتح باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وفى إستانبول عاصمة الخلافة يدخل الجنرال الفرنسي فرجيه بعد هزيمة الدولة العثمانية في البلقان وتوقيع معاهدة (ميدروس) عام 1918م.
وقبل أن تنتهي الحرب دخلت الولايات المتحدة الأمريكية الميدان لتشارك في القضاء على آخر أمل لألمانيا في النصر، أما الجنرال الفرنسي (جورو) الذي دخلت قواته سوريا فقد توجه على الفور إلى دمشق، وبالتحديد إلى قبر صلاح الدين الأيوبي،
وقال مقولته المشهورة:
«ها قد عدنا يا صلاح الدين»،
كأنه يقصد الانتقام لأجداده الصليبيين الذين هزمهم صلاح الدين في معركة حطين الخالدة وأجلاهم عن بيت المقدس، وحرر المسجد الأقصى من دنسهم. قُسمت التركة إذن مع الأسف، ودفعنا ثمنا باهظا من أموالنا لتلك الحرب، ومما يُحزن أنهم استخدمونا لقتال بعضنا، فلقي الجيش التركي المسلم هزيمته على يد إخوانه العرب في العراق أو في فلسطين.
اتفاقية القسطنطينية:
عقدت في 18 آذار (مارس) سنة 1915 اتفاقية سرية بين روسيا من جهة، وفرنسا وبريطانيا العظمى من جهة أخرى، بتبادل المذكرات بين سان بطرسبرج وباريس ولندن. فجرى الاتفاق على أن تضم روسيا إليها القسطنطينية، وساحل البوسفور الغربي، وبحر مرمرة، ومضايق الدردنيل، وتراقية الجنوبية إلى خط (إينوس- ميدية)، وساحل أسيا الصغرى بين البوسفور ونهر سقارية، ونقطة تقع على خليج أزمير تعين فيما بعد، ثم الجزر الكائنة في بحر مرمرة وجزيرتي أمروز وتنيدوس.
وفي مقابل ذلك اعترفت روسيا بعدد من المطالب التي تقدمت بها بريطانيا وفرنسا:
1- ما يختص بتركيا:
أ – جعل القسطنطينية ميناء حرا للحلفاء وضمان الملاحة التجارية في المضايق.
ب- موافقة روسيا على الاعتراف بحقوق بريطانيا وفرنسا الخاصة في (آسيا التركية)، بعقد اتفاقية منفصلة.
ج- اقتطاع البلاد الإسلامية المقدسة من تركيا ووضعها، بعد إضافة بلاد العرب إليها، تحت حكم إسلامي مستقل.
2- ما يختص بإيران:
وافقت روسيا على إدخال المنطقة المحايدة المنصوص عليها في اتفاقية سنة 1907 الإنجليزية الروسية، في ضمن منطقة النفوذ البريطانية.
على أن هذه الاتفاقية كانت فيها تحفظات ثلاثة:
أولها: أن المناطق المصاقبة لمدينتي أصفهان ويزد يجب أن تدخل ضمن منطقة النفوذ الروسية.
وثانيها: أن جزءا من الطرف الشرقي للمنطقة المحايدة الذي يجاور بلاد الأفغان، يجب أن يدخل ضمن المنطقة الروسية.
وثالثها: أن تكون لروسيا الحرية التامة في العمل ضمن منطقة نفوذها هي نفسها، (وكان التحفظ الأخير هذا يعني من الناحية العلمية إلحاق المنطقة المذكورة بها على المدى الطويل).
وقد تعهدت روسيا، علاوة على الترتيبات الإقليمية هذه، بمساعدة الحلفاء في حالة مهاجمتهم (الدردنيل). وحينما أعلنت إيطاليا الحرب أبدت بدورها موافقتها على هذه الاتفاقية الروسية الإنجليزية الفرنسية.
معاهدة لندن (1):
وفي 26 نيسان (أبريل) 1915 عقدت في لندن معاهدة سرية وقعت عليها بريطانيا وفرنسا وروسيا وإيطاليا، وكانت هذه المعاهدة ثمنا دفعه الحلفاء لإيطاليا لقاء انضمامها لمعسكر الحلفاء. ومن بين الامتيازات الإقليمية التي وُعِدَ بها الإيطاليون، هي الامتيازات التالية في الشرق الأوسط:
أعطيت إيطاليا سيادة تامة على جزر الدوديكانيز الاستراتيجية الواقعة بالقرب من الساحل التركي، والتي كانت تحتلها إيطاليا منذ 1912 (المادة 8).
نقلت إلي إيطاليا جميع الحقوق والامتيازات العائدة للسلطان في ليبيا بمقتضى معاهدة لوزان 1912 (المادة 10).
نصت المادة التاسعة، وهي أهم مادة، على ما يأتي: تعترف فرنسا وبريطانيا العظمى وروسيا بأن إيطاليا لها مصالح في البحر الأبيض المتوسط بوجه عام، وفي حالة تقسيم القسم الآسيوي من تركيا جزئيا أو كليا لا بد أن تحصل -أي إيطاليا- على حصة عادلة (!) من منطقة البحر الأبيض المتوسط المتاخمة لولاية أداليا، حيث كانت إيطاليا قد حصلت من قبل على حقوق ومصالح تَكَوَّن عنها موضوع الميثاق الإيطالي البريطاني.
وينبغي أن تخطط المنطقة التي ستخصص لإيطاليا نهائياً في الوقت المناسب على أن تؤخذ بنظر الاعتبار مصالح فرنسا وبريطانيا العظمى الموجودة حاليا.
كما يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار أيضا مصالح إيطاليا في حالة الاحتفاظ بوحدة الإمبراطورية التركية، أو عند إجراء تغييرات في مناطق نفوذ الدول. وإذا ما احتلت فرنسا وبريطانيا العظمى وروسيا أية أراض في القسم الآسيوي من تركيا خلال الحرب، فإن منطقة البحر الأبيض المتوسط المتاخمة لولاية أداليا ضمن الحدود المشار إليها أعلاه يجب أن تحجز لإيطاليا التي يجب أن يكون لها الحق في احتلالها، وبعد أن تسلحت إيطاليا بهذه الضمانات أعلنت الحرب على تركيا يوم 20 أغسطس 1915.