د. ياسر عبد التواب يكتب: القواعد الإعلامية المستقاة من الشريعة الإسلامية (2-2)
نستكمل محاولة ربط القواعد الشرعية التي ذكرها علماء الشريعة بتطبيقات لها في الواقع الإعلامي:
القاعدة (5): لا يجوز الكذب إلا في ثلاث مسائل: الصلح بين الناس وفي الحرب ومع امرأته
وهذه القاعدة مأخوذة من حديث نصه: عن أسماء بنت يزيد قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل الكذب إلا في ثلاث يحدث الرجل امرأته ليرضيها والكذب في الحرب والكذب ليصلح بين الناس)
قال في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب وكيف أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل وقد صح في الحديث جواز الكذب في ثلاثة أشياء أحدها في الحرب قال الطبري إنما يجوز من الكذب في الحرب المعاريض دون حقيقة الكذب فإنه لا يحل قال النووي والظاهر إباحة حقيقة نفس الكذب لكن الاقتصار على التعريض أفضل)
التطبيق الإعلامي للقاعدة:
من أهم ما يجب على الإعلامي الحرص عليه هو الصدق ولا أظنني أبالغ إن قلت أن الصدق هو أهم خصلة يجب أن تميز الإعلام النظيف والإعلامي الناجح
بيد أن هذه النقطة على وضوحها كثيرا ما يخرقها الإعلام والإعلاميين إما مجاملة لبعض الجهات أو رعاية لمصالح شخصية
كثرا ما تشوه الحقائق وتبدل المعلومات وتفسد العلاقات بين الشعوب بسبب تصرفات إعلامية غير مسؤولة من قبل بعض الجهات أو الأشخاص العاملين في الإعلام
ولما كان الإسلام دين الصدق فلا يحل لمسلم الكذب أبدا وينطبق ذلك على الإعلامي بشكل أخص وقد أثنى الله تعالى على الصادقين فقال سبحانه (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) التوبة 119
وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا)
وهذه القاعدة جاءت لرفع الحرج عن الأمة إن واجهت ما حصره الحديث في هذه الثلاث وبما أن حديث الرجل لزوجته – أي مدحه لجمالها وغير ذلك – ليس ضمن نطاق حديثنا فإن الاستثناء الإعلامي هنا ينحصر فقط في الحرب وإصلاح ذات البين فكل ما من شأنه أن يخدع العدو يجوز استخدامه عبر الإعلام وقد يجب لدرء الخطر عن الناس وفي الحديث الصحيح (الحرب خدعة) وكل ما من شأنه أن يصلح بين المتخاصمين من الشعوب والقبائل والجماعات والأفراد فإنه يجوز -ولا نقول يجب- استخدام الكذب فيه ويستحب المعاريض التي تعطي معنى صادق من وجه.
القاعدة (6): (لا مساغ للاجتهاد في مورد النص)
المعنى عند علماء الشريعة: الاجتهاد في اصطلاح الفقهاء بذل غاية الجهد والطاقة لتحصيل الحكم الشرعي من دليله الشرعي ومعنى القاعدة أن الاجتهاد يكون في القضايا التي لم يرد في الشريعة الإسلامية نص صريح بحكمها أما ماورد فيه النص الصريح بحكمه فلا يجوز الاجتهاد فيه
ومن الأمثلة على ذلك ورود النص في تحريم الربا فلا يجوز الاجتهاد في حله، وورود النص بأن للذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث فلا يجوز الاجتهاد بجعل ميراثهما متساو وكذا يقال في مسائل القصاص والتحريم كتحريم الربا وغيره فلا يجوز الاجتهاد بحلها أو بمخالفة النص فيها تحت أي حجة ولو زيادة موارد الدولة لأن مساغ الاجتهاد مقيد بعدم وجود نص
التطبيق الإعلامي للقاعدة:
يجب على كل إعلامي أن يعرف أنه ليس مفتيا يحل أو يحرم ويجب عليه أن يسند أمور الفتيا إلى أهلها
ولا يعد المفتي أهلا للفتيا لمجرد شهرته الإعلامية بل يجب أن يكون لديه إنتاجا فكريا وعلميا يرشحه للفتيا مع شهادة الثقاة من أهل العلم له بذلك
ومع استحضار تلك المسألة يجب على الإعلامي أن لا يطلب من غيره أن يجتهد فيما فيه نص صريح في المسألة وليس عيبا أن يسأل أهل العلم قبل الشروع في استضافة بعضهم عن بعض ما يثور بذهنه من قضايا هل يجوز طلب الاجتهاد فيها وليطلب بذلك رضا الله تعالى لا الشهرة أو الإغراب من أجل تداول الألسنة ما يردده من معان
قاعدة (7): (الدعوى بالمجهول فاسدة)
ومعنى القاعدة عند العلماء: أنه لا تصح دعوى إلا بعد بيان وصفها وبيان قدرها وجنسها
فلو قال قائل هذا شريكي خان في الربح ولم أدر فيم خان ولا قدره لا يلتفت إليه ولو قال المديون أديت بعض ديني ونسيت قدره ولم تكن له بينة لا يلتفت لدعواه)
التطبيق الإعلامي لهذه القاعدة:
يجب على الإعلامي أن يكون دقيقا فيما ينقل وبما يتحدث.. يكون دقيقا في المعلومات التي يذكرها ويجتهد بأن يحصل الأرقام ويدعمها بالنقول لتحدث المصداقية بما ينقل وبما يعزو وإلا صار كلامه رجما بغيب ودعوى بغير دليل والدعوى بالمجهول فاسدة
قاعدة (8): (الأصل براءة الذمة)
معنى القاعدة عند العلماء:
الأصل أي القاعدة الثابتة والذمة وصف شرعي يصير به الإنسان أهلا لما له وما عليه من الحقوق
والمعنى أن القاعدة الثابتة هي عدم انشغال الإنسان بأي حق للغير حتى يقوم الدليل على خلاف ذلكوهي تعطي نطاق تطبيق واسع في القضايا بحيث من ادعى على غيره حقا فالأصل عدمه إلا إذا أثبت المدعي غير ذلك
ومن هذا المقولة المشهورة (المتهم بريئ حتى تثبت إدانته) ومنها أيضا القول (الشك يفسر لصالح المتهم) لأن الأصل براءة المتهم من ارتكاب الجريمة وما يترتب عليها من عقوبة فإن لم يثبت ذلك فإن الشك لا يصلح لإدانة المتهم من ارتكاب الجريمة وما يترتب عليها من عقوبة
التطبيق الإعلامي للقاعدة:
كثيرا ما تكون الأجهزة الإعلامية المختلفة لها من السلطات ما يشبه سلطات القضاء وما أصدق من أطلق على الإعلام أنه أحد سلطات المجتمع
وقد تغري تلك السلطة الإعلامي ليطلق لفكره ومن ثم لقلمه أو للسانه العنان في إلقاء التهم جزافا أو الاستنتاجات غير المدروسة ربما بغية الفوز بسبق إعلامي أو بغية الوصول إلى الحقيقة والدفاع عنها ومهما يكن من أمر فإنه ينبغي في غمرة الحماس ألا ننسى تلك الحقوق التي كفلها الإسلام للآخرين ولمن هم في موضع الاتهام
وذلك في نهاية الأمر يراعي مصالح الجميع:
مصلحة الشخص أو الجهة موضع النقد ومصلحة المجتمع في وصول الحقائق لا الاتهامات المرسلة بغير دليل ومصلحة الإعلامي نفسه في تثبيت مصداقيته عند المجتمع بكافة طوائفه (الجهات التي ينقضها – المسؤولين – المتابعين)
قاعدة (9): الضرورات تبيح المحظورات
معنى القاعدة عند العلماء:
الضرورة هي في اللغة شدة الحال والاضطرار معناه الاحتياج إلى الشيء
وقد عرفها الفقهاء: (بأنها بلوغ الإنسان حدا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب)
والمحظورات هي الممنوعات شرعا أي المحرمات شرعا
والمعنى العام:
أنه في حالة الضرورة يباح للإنسان بعض ما يحتاج إليه مما كان محرما عليه مثل أكل المحرم من الميتة والدم ولحم الخنزير دفعا للهلاك؛ ومنها النظر للعورات ولمسها من قبل الطبيب سواء عورات النساء أو الرجال عند الاضطرار لذلك
ومنها إباحة النطق بالكفر عند الاضطرار إلى ذلك بأن يوقن من هلكته بسبب تمسكه علما بأن النطق بالكفر رخصة لا عزيمة والعزيمة هي عدم النطق بالكفر وإن قتل بسبب ذلك فهو شهيد بخلاف الاضطرار إلى المحرمات من الطعام والشراب
ومن تلك الضرورات جواز الكذب والحلف عليه عند الضرورة: فإن الكذب حرام حرمه الله تعالى وإن كان مع الحلف فهو أشد حرمة ولكن مع هذا يجوز الكذب والحلف عليه لضرورة تخليص نفس بريئة من الهلاك أو مال معصوم من الغصب أو حفظا لأعراض النساء أن تنتهك
فلو طارد ظالم بريئا يريد قتله أو امرأة يريد الزنا بها فاختفيا عند أحد الناس جاز لهذا إنكار وجودهما عنده والحلف على ذلك ومثل ذلك أيضا في المال المغصوب إذا طلبه ظالم متغلب باغ لأن مفسدة الكذب أهون من مفسدة القتل أو الزنا أو غصب المال والضرورات تبيح المحظورات
قال الإمام العز بن عبد السلام: ولو صدق في هذه المواطن لأثم إثم المتسبب إلى تحقيق هذه المفاسد)
وقد قيد الشافعية هذه القاعدة بشرط (عدم نقصانها عنها) أي لا تكون مفسدة الإباحة أهظم من مفسدة حالة الضرورة التي يراد دفعها بفعل المحظور ومثلوا بذلك:
(لو أكره على القتل أو الزنا فلا يباح له ذلك بالإكراه لما فيها من المفسدة التي تقابل حفظ مهجة المكره أو تزيد عليها) والمعنى أن حفظ حياته هو ليس بأولى من حفظ حياة الآخرين فلا يصبح ذلك ضرورة في حق المكره عليه وما أعظم هذا الاستثناء في مراعاة حفظ الحقوق ولئلا يتخذه البعض تكئة لارتكاب الجرائم بدعوى الاضطرار
قواعد مكملة لتلك القاعدة:
(المشقة تجلب التيسير- إذا ضاق الأمر اتسع)
ومن تطبيقات ذلك عند فقد العدالة أو ندرتها فيجوز قبول شهادة الأمثل فالأمثل
ويجوز دفع الصائل والسارق والباغي بما يندفع به شرهم..)
التطبيق الإعلامي للقاعدة: أما قلب الحقائق وترويج الأخطاء وتأييد الظلمة بدعوى الضرورة فلا تجوز بحال للإعلامي وغاية ما يضطر إليه أن يسكت عن الكلام أو الإنكار للمنكرات إن خشي على نفسه بسبب ذكرها فيكون هذا السكوت هو المباح في حقه لضرورة الأذى الذي قد يلحق به بسبب تناوله بعض القضايا
إذن إن خاف الإعلامي على نفسه أو من حوله أو حتى المجتمع ككل من وقوع الأذى أو التنكيل بسبب تناول بعض المواضيع فإنه يباح له أن يسكت لا أن يقلب الحقائق ويكون في زمرة أعوان الظلم والظلمة
أما الصورة الأخرى للتطبيق الإعلامي للقاعدة فهي أن يضطر الإعلامي لنقل بعض ما يؤذي الأفكار التي تصادم عقائد المجتمع بغية نقدها لا تشجيعها؛ أو ينقل من مناظر القتل أو الدمار ما يؤذي مشاعر الناس أو ما قد يكون فيه كشف عورات لضرورة تعريف الناس بما يدور في أوقات الأزمات
فكم من صورة حركت أمما وكم من مقال دفع غائلة استمرار الظلم والأذى والقتل وغير ذلك
المهم أن يكون الإعلامي حذرا في استخدام هذا الأمر أو تلك الإباحة فلا يسرف في النقل أو التفاصيل وما فهم بإشارة فاستخدام الإشارة في حقه أولى من نقله كما هو مراعاة أيضا لقضية العلنية وما فيها من اطلاع من لا يحسن اطلاعه على تلك النقول وعلى ذلك فحسن أن نتبع هذه القاعدة بقاعدة أخرى مكملة وهي:
قاعدة (10): الضرورات تقدر بقدرها
فهذه القاعدة توضح القاعدة السابقة وتبين بدقة المقصود منها والمقدار الذي تبيحه الضرورة
معنى القاعدة عند العلماء: الجبيرة يجب ألا تستر من العضو إلا بقدر ما لا بد منه والطبيب إنما ينظر إلى العورة بقدر ما تستوجبه الضرورة ضرورة المعالجة والمضطر لا يأكل من الميتة إلا بما يسد الرمق
ولو فصد أجنبي امرأة وجب أن تستر جميع ساعدها ولا تكشف إلا موضع الفصد) ويجبر من أحدث في داره نافذة أن يرفعها بصورة تمنع نظره عن الاطلاع على بيوت الجيران
التطبيق الإعلامي لهذه القاعدة:
سبقت الإشارة في القاعدة السابقة بأن الإعلامي يجب عليه أن يطرح ما فيه مخالفات أو كشف عورات أو نقل كفر أو سباب أو إشارات تخدش الحياء بحسب الحاجة فقط ولا يزيد وأن ما فهم بالإشارة يجب عدم تجاوزه إلى غيره مراعاة للمصالح والمفاسد وليعلم أن الله تعالى عد نقل الفواحش من ترويجها
قال تعالى (لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين، ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم، إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون) النور من 16-19