د. ياسر عبد التواب يكتب: وازهد فيما عند الناس
المنحة الأخرى أو سمها المحطة التالية التي ذكرها رسولنا صلى الله عليه وسلم للصحابي الكريم الذي سأله عن محبة الله تعالى كيف يحصلها وكيف يحبه الناس أيضا هي الزهد فيما عند الناس.
فبعد أن ذكر له أن أساس محبة الله تعالى له مظهر ومشجع عليه فإن زهده في الدنيا يوفر عليه سعيا وتعلقا وجهودا تقربه غالبا من محبة الله تعالى وتمهد لها.
فقلب متعلق بالدنيا (مالا وجاها وسلطة وعيالا وزينة) هو مشتت مجزأ خائف عليها وجل من فراقها أو من خسارتها.
هنا يخصص العلاقة بما عند الناس بالزهد فيما في أيديهم وما عندهم والمقصد فيما يحرصون عليه من شؤونهم فلا تنافسهم ولا تحسدهم ولا تغالبهم ولا تمدن عينك إلى ما تنعموا به من نعم ومن مال وجاه وغير ذلك.
هنا تسكن النفوس وتلين والناس يشعرون غالبا بمن يحسدهم وينافسهم خاصة في شؤون الدنيا فيشعرون معه بالتوجس والضيق.
فقوله صلى الله عليه وسلم (وازهد فيما عند الناس) أي من الدنيا (يحبك الناس) لأن قلوبهم مجبولة على حبها مطبوعة عليها ومن نازع إنسانا في محبوبه كرهه وقلاه، ومن لم يعارضه فيه أحبه واصطفاه ولهذا قال الحسن البصري لا يزال الرجل كريما على الناس حتى يطمع في دنياهم فيستخفون به ويكرهون حديثه.
ألا ما أشد بخل الإنسان وما أعظم شحه.. إنه لا يقبل أن ينازعه أحد فيما يملك لذا فإنه يحب ويميل إلى من لا يطمع فيما في يديه.
قال تعالى : {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا} (100) سورة الإسراء.
ومن هنا كانت تضحيات الصحابة الكرام وما قدموه من بذل وعمل وجهاد وهجرة.
كانت أعمالا مقدرة عظيمة عز أن تجد مثلها بل ولا يقارن بين بعض من أنفق منهم قبل الفتح وقاتل وهذا ما لفت له القرآن الكريم فقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (10) سورة الحديد.
وكذلك تضحيات الأفاضل من الأنصار الذين بذلوا كل غال نفيس في قمة سامقة من البذل والإيثار حيث مدحهم ربهم فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (9) سورة الحشر.
وكذا كان المهاجرين على نفس الدرجة من السمو فزهدا فيما في يد إخوانهم وتعففوا وكانت كلمة عبد الرحمن بن عوف لأخيه سعد بن الربيع لما عرض عليه مشاطرته لماله وتطليقه لأهله ليعطيه ذلك فقال: بارك الله لك في أهلي ومالي داني على السوق فتاجر حتى أغناه الله تعالى.
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي الْحَبِيبُ الْأَمِينُ أَمَّا هُوَ فَحَبِيبٌ إِلَيَّ وَأَمَّا هُوَ عِنْدِي فَأَمِينٌ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ قَالَ:
كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً فَقَالَ أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ فَقُلْنَا قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ فَقُلْنَا قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ قَالَ عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَتُطِيعُوا وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ).
الله أكبر حتى لو سقط سوط أحدهم لاستغنى عن أن يطلب من الناس أن يناوله له
وقيل لبعض أهل البصرة: من سيدكم؟
قالوا الحسن،
قال بم سادكم؟
قال: احتجنا لعلمه واستغنى عن دنيانا
رغم أن الحسن كان من الموالي لكن رفع قدره عند الناس عدم طمعه فيما عندهم
لا يعني ما ذكرت أن الإنسان لا يطلب شيئا ولا أن يسعى لتحصيل الخير
الأمر كله في تعلق القلب ونسيان المنعم
بل إن الإنسان يحصل حب الناس دوما إن أكبر لهم ما أحسنوا إليه به
ويحصل خبهم كذلك كلما أحسن إليهم قولا وفعلا
إنما كانت إشارة الحديث إلى أهم معالم الحب وأكبر عائق من تحصيله وأكبر مسبب للتناحر والتنافس والحقد
صلوات ربي على من أوتي جوامع الكلم