الجمعة أكتوبر 4, 2024
مقالات

رانيا مصطفى تكتب: الخذلان

الخذلان هو شعور الانسان بفقد السند في أمس لحظات الاحتياج، إنه كفاجعة سقوط بهلوان أثناء تقديم عرضه الخطر على حبال دون أن يغزل شبكة أمانه، فهل شعرتم بالخذلان من قبل؟

في مرحلة الشباب، يظن الفتى أن تحذيرات أمه قد انتهت صلاحيتها، ومع الوقت تتلاشى من ذاكرته حكاياتها، ويظن أنه قد كبر بما يكفي ليصد هجوم الذئب، وليكشف الثعلب المكار، وليتغلب على الساحرة الشريرة.

ببراءة يظن المرء في مقتبل حياته أن الجميع قابل للإصلاح، وأن كل من يبتسم له صفي، فإذا ما اقترب وقوبل بجفاء ارتعد، لكنه يبقى هانئا برصيده من الأحباب؛ ويمضي العمر، ويكبر وحش التخلي ويفترس الأقرب فالأقرب فالأحب فالأغلى.

لا يتعلم الانسان من خلال المواقف المرضية السعيدة، بل إنه لا يكتسب خبراته إلا إذا نحت الألم قلبه.

يظل ابن آدم آمنا طالما اطمأن لوجود كتف يحمل رأسه المهموم، لكن إن عصف بثقته اعصار الخذلان فإنه ينفيه بعيدا عن أرض غفلته إلى الأبد.

إن الخذلان صورة من الخوف، ولون من الافتقار، تختلف درجته بحسب منزلة الخاذل في القلب، فالمخذول خائف من الوحدة، مفتقر لرفيق يثمنه ويمنحه الحب.

الخذلان ليس لعنة أو طعنة أو ثأرا ينتظر قصاصا، بل إنه أوبة الانسان إلى حقيقة وجوده، ليعرف أنه خلق وحيدا وسيعيش وحيدا ويموت وحيدا.

والعزلة ليست صمتا عقابيا ينزله المتألم بالخاذلين، فطبيعة الناس النسيان، وعادتهم الانكار، والصمت لا يكون حلا عند الحاجة لترسيم الحدود، والبعد قد لا يؤثر فيصاب الانسان بخيبة تضاف إلى انكساراته.

إن العزلة هي الصومعة التي يتعبد فيها الانسان متأملا فيها مكنونات نفسه؛ إنها أهم وأجمل وأنضج مرحلة قد يمر بها، فهي غار محمد، ووادي موسى، وسجن يوسف، ونار إبراهيم، وحوت يونس، وسفينة نوح.

يكتشف المخذول في سجن حزنه سردابا، فينظر في يده فإذا بالخذلان مفتاح لقفل صدئ كبير يغلق بابا خشبيا عتيقا كتم صرخات استغاثة غطى عليها ضجيج الحياة وطلبات العابرين، يفتح الباب، فيبصر كومة بعيدة، فيقترب، فإذا بها نفسه القديمة، إنها ضحية خذلانه المنسية، وكأن مالاقاه من تولي إنما كان جزاء وفاقا لما اكتسب من إثم قديم، فيجلس بقربها لأول مرة، وينصت لها كما لم يفعل من قبل.

لا يجب أن يقع المخذول في فخ الاستعاضة عن الناس بالذات، فإنها لن تملأ فراغ الاختلاط بهم، وعليه أن يعي أن التعامل بمنطق الاحتياج يختلف عن التواصل المشبع بالاستغناء.

إن التوافق مع النفس حول بنود الحياة هو أساس بناء العلاقات مع الآخرين، فدستور تصيغه بحكمة سيحول غضبك إلى شفقة، وقسوتك إلى حنان، واندفاعك إلى صبر، وصراخك إلى ضحكات.

يخطئ الانسان حين يعيد صياغة فصوله بدافع الخوف من أحكام الناس، لأنه بذلك سيظل أسيرا لإجراء عملية تنقيح مرهق مستمر، وفي النهاية لن يقدر أعزاؤه مجهود استصداره مجلدا من كيانه يناسب كل باب فيه واحدا منهم، فلا هم ستعجبهم الطبعة ولا الكتاب سيكون معبرا عن صاحبه.

أحيانا، يظن الانسان أنه ضحية الخذلان بينما يكون هو أحد عوامله! يتعلق الأمر دائما بالتصميم التي يتمناه المخذول لبرج علاقاته العملاق؛ لذلك فهو يسجن غواليه داخل إطار آماله فيهم، فيعمى عن حقيقة مشاعرهم نحوه، إن أغلب أزمات العلاقات غالبا تنجم عن سوء فهم الأطراف لبعضهم البعض.

يرفض المخذول أن يسمع صافرات تنذر بانسحاب أثيره، ويفسر غيوم تململه بأنها عارض ممطره، فيغفر له، ويقبل تماديه، لأن بقاءه جزء من نظامه الكوني الراسخ الذي إن اختل ستقوم قيامته.

يكبل المخذول نفسه بقيود المروءة إلى أن تستنزف طاقاته، ويقع المحظور فيرفض، أو يمرض، أو تكثر أعباؤه، أو يبزغ في حياة عزيزه نجم جديد، فالأسباب كثيرة والخذلان واحد؛ فيفيق وقد فقد دعته، يبحث عن تفسير فلا يجد، يحاول الاصلاح دون جدوى، فيبكي نفسه اشفاقا ويواسيها، ثم يعنفها ويستنكر سلبيتها حين عرفت وتغافلت.

يشير المخذول بإصبع الاتهام نحو قلبه ويحكم عليه ظلما بالنفي بعيدا عن البشر، ثم يبحث عن مخدر لألمه، فيتناول على عجل جرعة زائدة من الثقة بالنفس، تشعره بأنه الأفضل والأغني عن كل غادر خاسر.

لا يصل المخذول إلى سلامه النفسي طالما احتله الغضب، واستولى عليه الأسف واللوم؛ فهو في قوقعته يحتاج إلى الروية، والتأمل، والمراجعة، والتقييم، وفصل روحه كعنصر منفرد.

يمكن أن يتناسى العقل ندوب الخذلان، لكن القلب لن يستطيع التخطي إلا إذا عثر على أسبابه، فيظل لأوعيه يفتش في أوراقه الصفراء حتى يفك طلاسمه وحينها فقط سيهدأ ويستريح.

على الانسان أن يدرك أنه قد يكون «كول سير»، ذاك الطفل المرتعب الذي كان يرى الموتى يتجولون حوله، والذي استجمع شجاعته وواجه أسوأ مخاوفه ليكتشف أن ما كان يظنه لعنة هو في حقيقته هبة عليه أن يستعملها ليمنح القتلى المغدورين الهائمين السكينة.

إن لرسو الانسان على موانئ الفهم رسوما مستحقة، ألا وهي استيعاب طاقة الخوف المنبعثة من المطعونين الطوافين حوله كما الأحياء، إن خبراتهم المروعة قد شكلت وجدانا متحفزا هشا لا يستطيع الانقضاض سوى على الهين اللين المأمون الجانب فيخذلونه بكل ما استطاعوا من فزع.

لا أحيك أعذارا للخاذلين، فقط أحاول أن أشخص متلازمة الخذلان، وأن أكتب للمخذولين وصفة علها تنفع، أجملها في حماية القلب بالصبر، وتحصينه بكثير من الحب.

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب