رانيا مصطفى تكتب: القليس وموسم الرياض
رانيا مصطفى تكتب||⇐ في حفل ماجن صاخب احتفل فيه النظام السعودي الحاكم بإعلان الرأسمالية انتصارها على الاشتراكية بفوز المرشح الجمهوري الأمريكي بمقعد الرئاسة في البيت الأبيض.
في مقابل حفنة من الدولارات، هرول نجوم الغرب ليسيروا على رمال حرمت عليهم لعقود، ومن خلال فرصة منحها لهم نظام حكم لا يرقى لمجتمع سادات الجاهلية، أدوا فقراتهم بعيون تلمع فيها نشوة النصر، وبأجساد تتلوى شماتة في أنصار دين رفيع المقام، عفيف الجناب.
في مشهد لم يتصور مسلم أن يراه في أسوأ كوابيسه، وقفت مغنية ذات ملابس فاضحة فوق سطح مجسم مكعب الشكل أحاطت به في احدى اللقطات انعكاسات لتماثيل تعيد إلى الذاكرة صور أصنام الجاهلية في فيلم فجر الاسلام، وكسته اضاءة أثبتت أن من صممه تعمد أن يكون رمزا للكعبة قبلة المسلمين.
عللت هيئة مكافحة الاشاعات السعودية قبولها تصميم المكعب بأنه موجود في بلدان كثيرة وأن أحدا لم يربط يوما بين المكعب والكعبة، وتغافلت عن أن استخدام هذا المجسم في أرض الحرمين بالذات له دلالات، وتجاهلت انتقاد الجمهور المسلم لإقامة “مولد سيدي العريان”، و”زار الشيخة جنيفر لوبيز” على بقعتهم الأثيرة الطاهرة على ظهر هذا الكوكب الملوث، واعتبرت هجومه نوعا من الحسد على انجازات العهد الجديد.
يستخدم النظام السعودي الشكل المكعب كعلامة تجارية تعبر عن أزمانه القديمة على غرار هرم مصر الذي يمثل تاريخها الفرعوني، وكما استغله في مواسمه الترفيهية، فقد استعمله في مشاريعه الاستثمارية كما في مشروع مكعب الرياض، الذي يوحي حجمه وكلفته بأن قليسا جديدا يبنيه أشرم يريد أن يحول الناس عن قبلتهم التي صارت مزارا سياحيا، وأصبح الوصول إليها حلما لا يستطيع تحقيقه إلا رجال عصابات المافيا أو ملوك ورؤساء دول جامعة الدول العربية، لذلك فإن محاولات قطع الصلة بين المكعب والكعبة لهو نوع من الاستغفال الرديء.
طالما اطمأن المسلمون أثناء حكم أسلاف أشرم اليوم أن مقدساتهم في أيد أمينة حتى وقر في قلوبهم أنها لو كانت في بلادهم ما كانت ستحظى بالرعاية والوقار اللتان تنعم بهما تحت الحكم السعودي، إلى أن استيقظوا على صخب مواسم الترفيه.
نفخ بعض المتابعين لمهزلة الرياض الترفيهية -بقصد أو دون قصد- الروح في مخطط قديم يهدف لتدويل الحرمين طبقا للنموذج الفاتيكاني عبر تأسيس هيئة اسلامية، تتناوب الدول الاسلامية من خلالها الإشراف على الحرمين منهية بذلك الاحتكار السعودي.
إن فكرة التدويل وإن بدت لامعة لبعض الغاضبين في ظل الحكم السعودي الجديد، إلا أن منطقا لا يقبل أن تنزع سيادة دولة عن جزء من أراضيها يقع في قلب ملكيتها؟ ولا عقل قد يوافق على نقل إدارة مواسم الحج من مكتب خبير إلى ملهى مجموعة من الهواة لا يستطيعون انتزاع قرارا وحيدا بوقف إطلاق النار على أبرياء استمر لأكثر من عام!
إن ما أدمى قلوب المسلمين أن السعودية لم تستغرق وقتا طويلا لتنهار، فقد استغرقت مصر-على سبيل المثال- حوالي قرنين وربع القرن لتصل إلى المستوى الثقافي المتدني الذي تعيشه اليوم، فقد بدأ هبوطها التدريجي منذ احتلال نابليون لمصر، ثم تنصيب خليفته محمد علي، وطال حكم الفرنسيون على غير ما يظن المؤرخون إلى أكثر من قرن من الزمان وليس لثلاث سنوات فقط، تخللتها محاولات تأثير انجليزية لم تنل مرادها سوى بالاحتلال الصريح.
استجابت السعودية مؤخرا للتغيير تحت ضغط الحداثة الفرنسية والغرور الانجليزي اللذان ينهشان المنطقة منذ عقود حتى رضخ لهما حكام بلاد المسلمين فشوهوا بهما عقول ووجدان الأجيال المتعاقبة حتى شبت وشابت وهي تلعن بمزيج من الحسرة والدونية الأرض التي أنجبتها.
كان سقوط رافعة الحرم ينذر بسقوط الرياض كما سقطت بغداد، ودمشق، وصنعاء، والقاهرة؛ رفع الملك سلمان رايتها البيضاء بتغييره عام الاحتفال بتأسيس المملكة من عام 1744 الذي شهد تحالفا بين الوهابية وآل سعود إلى عام 1727 ليحل بذلك العقدة التي تربط السعودية بالمرجعية الاسلامية؛ وقرأ بيان اذعانها سفيرها في لندن حين حصر وجود الدعوة الاسلامية على أرض المملكة في جيل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقت ظهور الاسلام.
أشار هبوب الرياح وكشف ستار الكعبة إلى خلع المملكة حجاب وقارها الاسلامي والدعوي في ميادين اللهو واللعب؛ وكان الصعود المتباهي والغير مبرر لولي العهد فوق سطحها هو بمثابة اطلاق رصاصة بدء عصر نزع هيبتها وقدسيتها من القلوب بواسطة الثنائي محمد بن سلمان وتركي آل الشيخ، الممثلان الجديدان للشراكة الأبدية بين آل سعود وآل عبد الوهاب.
لم يذبح النظام السعودي الفلسطينيين وحدهم حين أقام لياليه الملاح على أشلائهم، بل إنه طعن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بخنجر مسموم حين مول انقلابات دموية على رغبة الشعوب العربية في الانضواء تحت حكم ذي مرجعية إسلامية، وعندما رفع شعار الحرب على الإرهاب الذي حول كل مسلم إلى هدف سهل في مرمي الاتهام بالوحشية والهمجية، وجعل كل إسلامي معارض فريسة لا منقذ لها من بين فكي أنظمة سادية.
انقلب محمد بن سلمان انقلابا ناعما على والده وانقلابا وحشيا على عائلته، ليهبط بالسعودية هبوطا اضطراريا كما فعل السيسي بمصر وكما يفعل بن زايد بالإمارات، وإنه لمن الملفت أن يستحوذ الثلاثي على صناديق الاستثمار في البلاد الثلاث دون قيد أو شرط.
يتألم الشعب السعودي لما يلاقيه من انهيار تدريجي لا تخطئه عين عاقل، ولا يختلف حال الصالحين فيه عما يعانيه المصريون الطيبون في بلادهم، لذلك لا مجال للشماتة في مصاب أي منهما، نسأل الله العظيم أن يزيل عن المسلمين البلاء ويطهر حكمهم من الخبثاء ويكفيهم بما شاء وكيفما شاء.