الخميس سبتمبر 19, 2024
مقالات

رانيا مصطفى تكتب: المسكوت عنه في حرب غزة (2)

توحدت الصهيونية الشرقية الاشتراكية مع الدول المهزومة في الحرب العالمية الثانية، ما أدى إلى اشتعال الحرب العالمية الثالثة التي أطلق عليها مسمى «الحرب الباردة» بين القوتين الجديدتين، الرأسمالية بجيوشها وعدتها وعتادها، والشيوعية كرافد للاشتراكية بثوراتها وانقلاباتها وديمقراطيتها الصورية.

نفذت أفكار الصهيونية الشرقية الثورية من خلال شقوق الظلم والاستعمار واستنزاف الثروات الذين أحدثتهم النظم الرأسمالية في جدران معيشة الشعوب والتي لم تجد أمامها مخرجا سوى الاستجابة لدعوات حركات يمولها الصهاينة الشرقيون، وهكذا تحولت الشعوب المسحوقة لكرة قدم تركلها أقدام فريقي الصهيونية الشرقية والغربية.

صاحبت الماسونية الإنجليزية المنهج الرأسمالي العالمي، ورعت الصهيونية الغربية، واتخذت الرسالات السماوية منزوعة المحتوى والعقائد غير الإلهية ركيزة للنظرية الإنسانية التي جعلتها وحدها هي المرجع والمآل؛ وعلى الجانب الآخر، رافق المحفل الماسوني الفرنسي مبادئ الاشتراكية وروافدها، ودعم الصهيونية الشرقية، وأسس للإلحاد والنخر في أسس العقائد لتهيم البشرية في التيه رافضة أي نوع من السيطرة أو السلطة وعلى رأسها الهيمنة الرأسمالية.

بعد سقوط الدولة العثمانية، حرصت الرأسمالية على تقسيم تركتها إلى دول ضعيفة دون أن تخل بمكاسبها بإقرار معاهدة سايكس بيكو الشهيرة، كما ضمنت ولاء قادة جيوش مستعمراتها السابقة، بينما خططت الاشتراكية لتفجير المقسم لأنها لن تستطيع أبدا أن تفرض سيطرتها كما يفعل السادة الرأسماليون، وذلك عن طريق اقتراحات غير رسمية نُظر إليها بعين الاعتبار مثل خطة ايدن.

لأن الرأسمالية نظام عتيق شب عليه العالم وشاب، ولأن الاشتراكية نظرية غير قابلة للتطبيق، فقد شنت الأولى معركتها وصنعت اشتراكيتها الخاصة التي صنعت منها درعا تتفادى به سهام البلبلة الديمقراطية، وسلاحا تفرط به عقد الاتحاد السوفييتي الممثل الأكبر للاشتراكية الثورية في العالم، والذي من بعده انهارت الشيوعية وضعفت الاشتراكية لكنها لم تنته ولم تستسلم.

يعتبر نظام رأسمالية الدولة هو النافذة التي قفز منها الرأسماليون إلى عقر دار الشيوعية والاشتراكية الليبرالية والاجتماعية، مستغلة العداء المتوحش بين أتباع كل منهما.

بعد هزيمة الشيوعية -الفرع العنيف للاشتراكية- في الحرب الباردة، صارت الرأسمالية تتحرك بخطوات متبجحة على خريطة العالم، فبأسلحتها وثقلها الاقتصادي لا تحتاج لإذن لاجتياح دولة أو لاحتلال منطقة، يكفيها فقط إطلاق أي شعار تستتر خلفه كالحرب على الإرهاب مثلا، أما الاشتراكية وفروعها فلا تملك إلا أن تشاركها بعد جهد جهيد العملية السياسية، أو أن تصنع ثورة هنا أو انقلاب هناك، أو أن تمول وتسلح جماعات لها نفس الأهداف في مناطق نفوذها.

أدركت الدول الشيوعية سابقا أنها لن تستطيع مواجهة الأنظمة الرأسمالية فلجأت إلى تجديد الخطاب الشيوعي، وبنهاية الألفية الثانية كانت قد أحدثت تغييرات شاملة في قيادات الدول والحركات والأحزاب التي كانت تتبنى فكرها، وأصبحت أكثر ميلا للتعاطي مع الكيان الرأسمالي، مع المطالبة بنصيبها الاقتصادي بوسائل سياسية أقل خطورة.

عدلت الدول ذات التاريخ الشيوعي صيغة وجودها العالمي بممارسة منهج رأسمالية الدولة كمرحلة انتقالية، والذي سيمكنها من الظهور شعبيا كأنظمة لم تتخل عن المظاهر الديمقراطية الاشتراكية، مع الحفاظ على حربها الإعلامية ضد الهيمنة الغربية ورفض سياساتها.

فقدت الشيوعية/الاشتراكية الجسد الذي تطفلت عليه أثناء الحرب الباردة، لذلك لجأت للتسلل داخل بيت أكبر المتضررين من رأسمالية الغرب ألا وهي المنطقة الإسلامية، فهي تمتلك قوة شعبية ضاربة، وأراضيها هي منطقة الصراع الذي لا يهدأ.

لم تلق الشيوعية رواجا في المنطقة العربية برغم اعتماد الأنظمة الاشتراكية-المنقلبة على الملكية- على أفكارها، فجذور دول المنطقة رأسمالية اشتراكية إسلامية الاقتصاد، لذلك قررت الأنظمة المنقلبة بقيادة كمال أتاتورك ومن بعده جمال عبد الناصر أن تخنق الأسس الإسلامية وأن تطبق الشيوعية إلى أن تخرج من مجال الملكية، ثم تتبنى المظهر الديمقراطي، لكنها في النهاية لم تبرح فلك المستعمر.

يبدو أن العالم في طريقه نحو نهايته، فكل الامبراطوريات المهزومة لم تستطع أن تتخطى عظمة ذكريات سطرها تاريخها، وهذه هي نقطة الضعف التي استغلتها الصهيونية الشرقية، فنفذت إلى داخل الجانب المظلم لكل مملكة ونفثت فيه روح العصبية والقومية، وزرعت في قلبها حلم العودة.

رضيت الدول التي بنيت على أنقاض الامبراطوريات الرأسمالية القديمة بأن تستتر خلف المبادئ الاشتراكية لتنتهز كل فرصة لتسترجع أيا من أمجادها الضائعة، لكنها تقبل في ذات الوقت أن تكون حليفة قوية للنظام الرأسمالي لأنها في الأصل تنتمي إليه.

تبنت الدول المستقلة عن الاستعمار التوجه الاشتراكي، وعاشت كذبة كبرى أسمتها (الجلاء)، فلا تزال الدول الاستعمارية الكبرى تتحكم فيها، بل إن أصل الخلافات التي تنشب بين المستعمرات المحررة هي صراعات مصالح بين دول رأسمالية فرضت عليها حمايتها سابقا، على سبيل المثال، مازالت فرنسا تتحكم في إدارة مصر التي احتلتها عبر تنصيبها محمد علي واليا عليها، ومازالت السعودية تابعة للتاج البريطاني الذي دعم مؤسسها واعترف بتوحيد شبه الجزيرة تحت اسم قبيلة واحدة.

يعتقد بعض الكتاب السياسيين أن العالم بعد الحرب العالمية الثالثة الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي والشيوعية صار يتحكم فيه قطب واحد، بينما الحقيقة هي أن حلبة الصراع الدائم بين القوى الاشتراكية، وبين الأنظمة الرأسمالية قد انتقلت واستقرت في الولايات المتحدة من خلال حزبيهما الديمقراطي والجمهوري.

يتبع >>

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب