بحوث ودراسات

رانيا مصطفى تكتب: سلميتنا.. مازالت أقوى من الرصاص

في 25 يناير، اختار قادة الحراك المصري من الاخوان المسلمين «السلمية» لتكون له شعارا ومنهجا؛ لكن منذ وقوع الانقلاب، لا تكاد تمر مناسبة إلا ويمزق فريق من أبناء التيار الإسلامي ظهر الجماعة بسياط التقريع والسخرية بسبب تبنيها هذا الخيار.

لأنني ممن يدافعون عن مبدأ السلمية، سأعرض رأيي فيما أثاره فريق «أنصار القوة» حول خطأ الاخوان المسلمين في تبني هذا المبدأ.

أولا:

فصلت في مقال سابق بعنوان (سلميتنا.. أقوى من الفتنة)

أن السلمية مبدأ شرعي حيث تظل الثورة مشروعة طالما لم تحمل الرعية السلاح شريطة أن يكون الحاكم والمحكوم من أهل السنة،

وإلا فستتحول كلمة الحق لفتنة تأتي على الأخضر واليابس، وهذا ما ألزمت الجماعة به الجميع في ثورة يناير.

ثانيا:

أثناء الانقلاب، ونظرا لأن الحاكم المتغلب «يقول» أنه مسلم سني، ولم يثبت للجمهور عكس ذلك فلم يتغير الشعار،

لذا اكتفي قادة الحراك بالدعوة لاستخدام «كل» وسائل الدفاع عن النفس دون القتل، لكن جدة الموقف عطلت ابتكار شعب يكره سفك الدماء ويخشى إثم القتل.

ثالثا:

انضمت شريحة كبيرة من الشعب المصري ليناير لأنها سلمية، وبرغم وحشية الانقلاب لم تكن لديها النية لتغيير مسارها،

لذلك فإن وصم جماعة الاخوان بالجبن لأنهم لم يتزعموا قتالا مسلحا دون مناصرين لهو نوع من العبث.

رابعا:

أدت هيمنة أوهام «الثورات العفوية المفاجئة»، و«إرادة الشعوب التي لا تقهر»، و«وعي الجماهير المضاد للانقلابات»، إلى الافتقار إلى واقعية التحليل،

ورفض الإقرار بسيطرة القوى الاقتصادية من خلال حصصها في الجيوش التي تتخذ القرارات بقوة السلاح.

خامسا:

تتعامل الذاكرة الانتقائية مع الأحداث السياسية بمنطق جمهور كرة القدم، فيهلل المشجع سعادة بالأهداف وخلال ثوان قد يلعن خطة المدرب وتكاسل اللاعبين إذا هزم فريقه المحلي أمام الفريق الفائز بكأس العالم.

سادسا:

انعدم الابداع فصار الخيال الجمعي المقهور لا يعرف سوى شكلا واحدا للقوة، لا يملك الجرأة ليفصح عنه، وغير واثق إن كان يريده فعلا!

فهو تارة يتحدث عن ثورة لا تبقي ولا تذر، وتارة أخرى يدعوا لسلمية خشنة لا تختلف عن سلمية الاخوان،

بل إنه لا يقدم تصورا ناضجا لكيفية استخدام قوته عديمة القالب في مواجهة جيش مدجج بالسلاح!

سابعا:

يحتاج العقل المهزوم إلى تعاطي أسطورة تضخم المؤامرات العالمية ضد كل دول المنطقة، وتخلق لثوارها مبررات التعثر، وتغزل من خطواتهم البطولات، وتغمض عينيه وتسد أذنيه عن كل حقيقة قد تعكر صفو أحلامه بانتصار يثبت أنه كان محقا حين قزم العدو في معركته، ولعن السوبر اخواني الخارق المتخاذل الذي لم يطر ويمسك طائرة الثورة المحترقة محركاتها ليضعها على مدرج الهبوط بأمان.

ثامنا:

يحبس التحليل المعلب مصيبة الانقلاب داخل صندوق جماعة الاخوان مع تجاهل غير برئ لخطايا القوى الأخرى التي كانت سببا مباشرا فيه.

تاسعا:

يعتبر المتحمسون للقوة أن الديمقراطية مقبرة للثورات، برغم أن ما من حراك مسلح إلا واضطر إلى الانخراط في توافقات مهما بدا باطشا،

وأن الإسلاميين سواء قاتلوا أم توافقوا سيضطرون في النهاية للانتظام داخل إطار عالمي محدد طالما لم يمتلكوا سلاحهم.

عاشرا:

في ازدواجية متناهية، يبدى بعض أنصار القوة استعدادا قويا لفتح قنوات تفاهم وتوافق مع منفذي ومؤيدي الانقلاب،

بينما يطالبون الاخوان المسلمين بإجراء تراجعات ومراجعات وحل للجماعة والعزل عن الحياة السياسية!

ما يترك انطباعا وهميا لدى المتلقي أن أنصار القوة سيصلون إلى نتائج أفضل بمعطيات بائسة إذا ما دفنت الجماعة.

حادي عشر:

تعتبر جماعة «إذا ضربت فأوجع» المعارك المسلحة حلا قاطعا للمسألة المصرية،

لكنها لا تواجه مؤيديها بأن تكلفة استخدام القوة لا تستطيع جماعة ولا حركة مهما بلغ اتساع شهرتها أن تتحملها،

وأن الحراكات المسلحة التي تشهدها في محيطها، دفعت أوطانها أثمانا باهظة في مقابل خدمات الجهات التي مولت وسلحت ودربت.

ثاني عشر:

لا يضع أنصار القوة «الفشل» احتمالا، ولا يقدرون فاتورته، ولا يحسبون حساب خذلان الممول إن تغيرت خريطة مصالحه أو خسر أمام خصمه.

ثالث عشر:

لم يقدم اليائس المصري خطوات منطقية توضح كيف كان يمكن لمرسي أن يتخطى الانقلاب دون أن يمتلك أدوات تنفيذية كالجيش والشرطة ودون أن يسحب مصر إلى الاقتتال الداخلي.

رابع عشر:

حكم سقف أحلام المواطنين المرتفع بالفشل على عام حكم مرسي المشحون من منظور استقرار أردوغان،

دون تقدير لغليان القوى الاقتصادية العالمية وفوران الشارع المصري.

خامس عشر:

تجاهل المؤمنون بشعار “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة” أن جيشا تمكن من الحكم،

وتغلغل في كل المجالات لن يقبل ولو على جثته أن تتخذ ضده إجراءات استثنائية تقضي بمحاكمته وتحدد نفوذه وتقيد شبكة مصالحه.

سادس عشر:

فاز مرسي بنسبة خمسين بالمائة تقريبا، وهذه الخمسون انقسمت لعشرين إسلاميين أيدوه بإخلاص، وعشرين إسلاميين أيدوه على مضض، وعشرة علمانية مكرهة،

فهل كانت هذه النسبة تكفي لتصبح ظهيرا شعبيا يتكئ عليه لينهي انقلابا مسلحا؟

سابع عشر:

إذا تغاضينا عن أن الجيش المصري كان سيغفل عن تكوين ميليشيا اخوانية مسلحة!

فكيف يظن أنصار القوة أن المصريين المرتبطين عاطفيا بجيشهم كانوا سيقبلون بوجود كيان مواز مسلح! أو أنهم سيناصرون الجماعة ضده!

ثامن عشر:

يلجأ أنصار القوة لعقد مقارنات خيالية عبثية خالية من أوجه التشابه ومتخمة بأوجه الاختلاف دون الاستناد للتاريخ معتمدين على جهل الجمهور بخط سير الأحداث السياسية العالمية،

فمثلا، يقارنون رد فعل شعب مصر بأداء شعب تركيا وكوريا في مواجهة الانقلابات وكأن المعطيات واحدة!

تاسع عشر:

استنكر الحازمون على جماعة الإخوان أنها لم تصنع حرسها الثوري الخاص أسوة بخميني إيران.

إن صناعة حرس ثوري كان مستحيلا نظرا لتماسك الجيش المباركي.

فتح شاه إيران أبواب اقتصاد البلاد على مصراعيها للغرب، واعتبر نفسه هو الدولة، وبالغ في رفع ميزانية الجيش وتسليحه،

وأنفق على جنرالاته ببذخ، واتبع معهم سياسة فرق تسد حتى لا يكونوا شبكاتهم الخاصة،

وكانت قرارات التعيين والفصل والترقية في يده دون معايير منطقية لحركة التنقلات،

ما أدى لظهور خصوم للشاه من المجندين من الطبقة المتوسطة في الجيش، فتفكك الجيش فسيطرت قوة الحرس الوطني؛

أي أن حال الجيش المصري حاليا ربما يكون هو الأقرب لوضع الجيش الإيراني قبل السقوط مباشرة.

عشرون:

متحسبا لتكرار التجربة الإيرانية، قام النظام الانقلابي بإنشاء حرسه الثوري تحت لواء العرجاني إلى جانب جيش البلطجية بقيادة نخنوخ،

واهتم بتسليح رجال أعماله، والأهم أنه أنشأ عاصمة ومؤسسات حكم موازية فأصبح قائدا لدولة داخل الدولة.

حاديا وعشرين:

امتلأت مواقع التواصل مؤخرا بتقريع الشعب المصري واتهامه بخذلان غزة،

وتعامى الجميع عن أن الشعب الكبير صنع من أجله جيش كبير أيضا ليحبسه لا ليدافع عنه، فبنى حدودا بين المحافظات ليسيطر عليه،

ووسع شبكة طرق تسهل انتشاره في طول البلاد وعرضها ليمنع أي حراك، وضاعف أعداد السجون،

وأطلق يد الجنود والضباط والقضاة، إن كثيرا من اللائمين لا يدركون أن سفر المصري لأي دولة في العالم أسهل من دخوله سيناء.

ثانيا وعشرين:

ليس من الشهامة أن تطالب أغلب الأصوات الهاربة وهي في الوضع الآمن بالتغيير العنيف،

وأن تستفز مشاعر المصريين تحت البطش لتشعل بهم ثورة دامية لن يريد أصحاب هذه الأصوات أن يتحملوا نتائجها.

ثالثا وعشرين:

تحت لافتة الشعب يستطيع، تخلى كثير من الإسلاميين للأسف عن الإيمان بالقضاء والقدر،

ونسوا أن المرض قد يستشري في جسد الانسان لا لاستسلامه له ولكن لأنه اختبار إلهي،

وأن التضرع لله والتسليم بقضائه ليس جبنا بل هو تطبيق لـ«لا حول ولا قوة إلا بالله»، وأن الصلاة والدعاء ليسا حلا نظريا للمأساة،

بل هما تطبيق عملي لأهم ضربة معول في جدار اليأس، وأن ما يقوم به العبد من أخذ بالأسباب يخضع مذعنا لمن يقول لها كن فتكون.

رابعا وعشرين:

يدرك قادة الحراك الإسلامي خطورة جر مصر بالذات لحرب أهلية، فمائة وعشرون مليون مواطن لن يجدوا ملجأ أو صديقا حميما إن حل ببلادهم مكروه.

خامسا وعشرين:

أغفل أنصار العنف رغبة ووجهة نظر الجمهور المصري الذي رفض رغم الاتهامات محاولات التثوير المستمرة،

وذلك لأنه يدرك حجم مأساته التي لا يشعر بها غيره، كما أنه سلم بأنه قد صار أعزلا بعد سجن الجماعة التي كانت -رضي من رضي وأبى من أبى- حصنا له.

سادسا وعشرين:

يربط بعض مؤيدو العنف بين حل الجماعة ويستخدم لعن السلمية سلما،

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الانقلاب على مرسي رافقته محاولة انقلاب أخرى على بديع داخل جماعة الاخوان،

ففريق التجديد الاخواني يحاول أن يسير على نفس القضبان الذي يسير عليه تيار التحديث العسكري.

سابعا وعشرين:

بدرجة عالية من الخبث، استطاعت بعض الدول التي فشلت في تثبيت مرشحها على عرش مصر،

وأخفقت في التعاون مع محمد مرسي؛ أن تلصق فشلها بالرئيس الذي رفض أن يخضع لتمويل خارجي

وأن يسلمهم مصر كما سلم المنقلب مصر للصهيونية الغربية الرأسمالية ووكيلها الامارات،

وأن تنسب هزيمتها لسلمية جماعة الاخوان في محاولة منها لإشعال حرب أهلية قد تستعيد بها أحلامها الضائعة.

وأخير،

ليست كل الانجازات انتصارات فمنها ما يكون فتنا كقطع الليل المظلم، وبعضها يكون كخرق السفينة، وقتل الغلام،

وإقامة الجدار، ومنا من يحار كموسى عليه السلام فلا يستطيع مع كل ذلك صبرا، وكيف يصبر على مالم يحط به خبرا.

لا أحجر على الأفكار، ولكني لم أجد فيما قرأت بناء فكريا منطقيا يمكن البناء عليه،

لنتحرر نحتاج أولا أن نتخلص من الأوهام والخرافات الاستعمارية، أؤمن أن المعجزات ممكنة، فاللهم معجزة.

رانيا مصطفى

مدونة مصرية مهتمة بالتاريخ والأدب والسياسة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى