رانيا مصطفى تكتب: متلازمة نحن شعب وأنتم شعب
ظهرت أول أعراض متلازمة «نحن شعب وأنتم شعب» عندما أطلق بوش الابن صيحته الشيطانية «من ليس معنا فهو ضدنا»، وحينما قررت القوى الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تغيير وجه الشرق الأوسط باجتياح العراق، وإعادة فرض حماية المحتل الصهيوني الغربي على مستعمراته، وتسديد ضربة قاصمة للاشتراكية في عمق ما تبقى لها من مكتسبات بعد انتهاء الحرب العالمية الباردة وتفكيك الاتحاد السوفيتي.
بالانقلاب على ثورات الربيع العربي تفشت الأعراض في نظم حكم المنطقة، المنقلبة منها وغير المنقلبة، إلى أن بلورها النظام المصري في نشيد سلطوي بعنوان “نحن شعب وأنتم شعب” ليعلن به مبادئ الجمهوريات الجديدة.
تسلل الوباء وهزم مناعة الشعوب، فانشطر المواطنون إلى فريقين، وطني شريف موال، واسلامي إرهابي معارض، لكن أبشع أنواع التقسيم تلك التي أحدثها من عرفوا الحق واتبعوه.
بعد الانقلاب، ناديت عند كل مطب فتنة أن اربطوا الأحزمة وتمسكوا بمقاعد الصدق؛ غربلت الفتن الناس بعنف، وكنت أراقب بحزن سقوط مدو تلو الآخر، وأدعو الله تعالى ألا أكون من الهاوين.
رافقت طوفان غزة محنة جديدة حيرت العقول وأربكت الأفهام، وأشعلت معارك دامية داخل معسكر الأخيار، فتبادلوا إطلاق الاتهامات، وفجروا قنابل الخصام المسيلة للدموع.
اختلطت المبادئ بالمشاعر فأصدرت بعض الأصوات أحكاما متعصبة، وعقدت مقارنات مشوشة، وعظمت نتائج صنعت منها أصناما، وأمرت الناس بالطواف حولها والقتال من أجلها، وجمعت حولها مريديها ونصبت نفسها راهبا يدخل طائعيه جنات الإخلاص ويلهب العاصين بجحيم الاتهامات.
اختارت حركة حماس إيران كحليف يقوي شوكتها، وارتبطت بمحور الممانعة لاشتراكها معهم في الهدف في ظل تخاذل حكام الدول العربية الإسلامية عن نصرة الأقصى؛ وبرغم خبرات الشعوب الإسلامية التي علمتهم أنه لا خير يرجى من مجرم طامع، إلا أنها قبلت قبول المضطر العاجز، وتفهمت قلة حيلة الحركة.
وقفت فلسطين وفي القلب منها حماس كحائط صد أمام تقدم الكيان، وأجلت انتفاضاتها كارثة الاحتلال الكامل، وجاهدت بالولد والمال والدار، لا تملك إلا المقاومة والصمود ولا ترجوا إلا الشهادة أو النصر.
إن فلسطين بالنسبة للاشتراكية والديمقراطية والشيوعية هي ورقة اللعب الأخيرة بعد هزيمة ثورات الربيع العربي، لذلك تغامر إيران بكل ما أوتيت من أذرع وتحالفات لتحافظ على نفوذها على أرضها، في مواجهة تقدم الرأسمالية وفرضها إعلان دولة الاحتلال الواحدة وعاصمتها القدس كأمر واقع.
إن الخلاف مع إيران الشيعية ليس خلافا عقائديا طائفيا عنصريا كما يروج بعض الكتاب، فالأمر أعمق من ذلك بكثير، صنعت إيران حصان طروادة من يهود الشرق المهمشين الطامحين في حكم دولة تتسع من البحر إلى النهر، والمنتهجين سياسة الاستيطان البطيء، فدعمت مشاركتهم يهود الغرب الأوروبيين الرأسماليين في حكم الكيان.
تحت ستار الود والمؤازرة ووحدة الدين والقضية، اتخذت إيران من الجسد السني درعا بشريا يحمي خططها؛ وحرصت على إبقاء جذوة الاضطرابات مشتعلة حتى لا ينعم الرأسماليون بالراحة.
يظن بعض المتعصبين للمقاومة أن انكار قبول مدح إيران وقياداتها وأذرعها، يعني رفض التكتل معهم لمجرد أنهم شيعة، وظنوا أن بوابة التحالف هي التقارب العقدي، فجاءوا من السنة والسيرة بالأدلة على جواز التحالف مع الكافر، ولم يفطنوا إلى أن الاتفاق العسكري لا يرتبط باندماج الثقافات، أو انصهار المذاهب.
بالغ بعض المتعاطفين في الدفاع عن المقاومة واستنكروا أي مراجعة محبة، واعتبروا أن التسليم بكل ما يقوله المجاهدون شرطا لصحة العقيدة، وجعلوا فلسطين هي نقطة البداية وإليها المنتهى، برغم أن احتلالها وتحريرها اقترن على مر التاريخ بسقوط العراق والشام ومصر.
يغض المتحمسون النظر عن جرائم إيران في سوريا واليمن والعراق ولبنان، ويظنون أن نواياها تختلف عما يضمره صهاينة الغرب للمسلمين السنة، وأنها ترغب تحرير القدس وإعادة الحقوق لأصحابها مجانا.
لا يميز المندفعون بين رفض الاتحاد الكامل مع الشخصية الإيرانية، وبين رفض التحالف معها عسكريا! كما أنهم لا يدركون الفرق بين فرح بقتل رئيس حزب شيعي أذاق اخوته الويلات، وبين سعادة متصهين عربي باغتيال حليف للمقاومة أملا في أن يمن عليه الغرب بمقعد أمام الكاميرا.
يحصر المتكلمون الحديث عن القضية الفلسطينية بين صياغة صهيونية شرقية للأحداث بأسلوب اعلام نكسة عبد الناصر، وغربية تنتهج تقزيم وتشويه ولعن المقاومة؛ ويهاجمون المتمرد على مبالغات الطرفين، ويطالبونه بمراجعة عقيدته!
يصارع التشيع الشرقي الابراهيمية الغربية، فكلاهما حريصان على أن يظل المسلم السني تائها لا يعرف له دار؛ محبطا لا يعي أن الإرهاب في نظر أعدائه هو مرادف لعقيدته التي تخلق في ذاته المعجزات، وتمنع عنهم الثروات، هم خبروا كابوس خلافة غرسها ثبات العقيدة لقرون، وعانوا حتى فتتوها، وبرفعهم راية الحرب على الارهاب أرادوا أن يطمسوها.
يعاني الداعمون للقضية من عدم الفصل بين مفهوم الثبات والإيمان والصبر والدعم والقتال مهما كانت النتائج، وبين الرعب من الاعتراف بحقيقة المآلات وواقع ما حققه العدو دون تضخيم أو تهوين.
هناك أزمات لدى المناصرين للمقاومة في فهم حدود مشاركة الحليف في صفوف المحاربين؛ وفي تفسير قوانين الآيات والأحاديث التي تشير لسنة الاستبدال؛ وفي تقدير حجم العجز الذي أحدثته قوى صهيونية بصفوف المسلمين، وفي الاستسلام لتهويل قيمة كل من هب ودب، وفي اللجوء إلى التبريرات خوفا من المواجهة.
اعتبر المتألمون كل حديث عن التضرع الى الله والرجوع إليه كلاما نظريا، وأن أي حديث عن نبذ الخونة شق للصف، وأن دعم المقاومة تقديرا لما عانته مع الهجوم على مستغلين يدعمونها تميعا.
إن التركيز على تفاصيل المعركة الحقيقة، والتخلص من خداع القراصنة مع المؤازرة الكاملة للمقاتلين طالما أن المعركة ابتدأت وسال الدم، ليس نفاقا، بل إنه تعظيم لقيمة ما يبذله المحاربون، إنما التلون هو لي عنق التاريخ والجغرافيا والدين لإيجاد مدخلا أو مخرجا لتحالف تحت سوط قلة الحيلة.