رانيا مصطفى تكتب: محكمة العدل الدولية والعدوان على غزة
رفعت جنوب أفريقيا دعوى قضائية ضد الكيان المحتل للأراضي الفلسطينية أمام محكمة العدل الدولية بشأن انتهاكه لالتزاماته بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية في غزة، وطلبت من المحكمة الإشارة إلى تدابير من شأنها حماية الفلسطينيين من أي ضرر إضافي وغير قابل للإصلاح لضمان امتثال الكيان لبنود الاتفاقية؛ كما طالب محامي جنوب افريقيا بوقف فوري للعمليات العسكرية التي يقوم بها جيش الاحتلال في القطاع.
إن تقديم جنوب افريقيا هذا البلاغ ضد الكيان لهو عمل مشرف سيسطر بالتأكيد بحروف مضيئة في صفحات تاريخها، ومع كل التقدير لموقفها هذا إلا أننا لا ينبغي أن نغفل كونها عضوا أصيلا في مجموعة بريكس الوليدة والتي تميل سياسات دولها إلى رفض الرأسمالية الأوروبية والأمريكية التي يمثلها نتنياهو رئيس وزراء الكيان.
أصدرت محكمة العدل الدولية قرارا ابتدائيا باتخاذ جميع التدابير لمنع ومعاقبة أي تصريحات أو أعمال يمكن اعتبارها تحريضا على ارتكاب جيش الاحتلال إبادة جماعية، واتخاذه جميع الإجراءات لضمان وصول المساعدات الإنسانية، وعدم تخلصه من أي دليل يمكن أن يستخدم في القضية المرفوعة ضده، وتقديمه تقرير للمحكمة خلال شهر بمدى تطبيقه لهذه التدابير والأحكام؛ وكأن المحكمة تقدم للكيان وصفة مفصلة ومهلة كافية ليتخلص من بصماته على آداة الجريمة، وليخرج من مأزقه بأقل تكلفة.
هناك أصوات تطالب متابعي القضية على مستوى العالم بالتعقل وعدم الانجراف خلف عواطفهم، واعتبرت الترحيب السياسي والديبلوماسي من جانب دولة جنوب افريقيا وممثلي الشعب الفلسطيني وممثلي دول أخرى مبررا كافيا لاعتباره خطوة ايجابية يمكن البناء عليها.
دافعت تلك الأصوات عن الحكم مؤكدة أن مجرد اتهام الكيان بارتكاب جريمة إبادة هو خطوة ليست هينة واستبشرت به منتظرة تداعيات وخيمة تحط على رءوس الدول التي تمده بالمال والسلاح! متغافلة عن أن اجراء كهذا تأخر لأكثر من 70 عاما، ومتغاضية عن أن الدول الممدة والممولة تقع خارج نطاق المساءلة منذ عقود!
فسرت تلك الأصوات المتضامنة الحكم بأنه يتطلب ضمنيا وقفا للعمليات العسكرية، ولم توضح سبب عدم صياغة المحكمة لهذا المضمون في عبارات واضحة كما فعلت من قبل عندما أصدرت حكمها في دعوى أوكرانيا ضد روسيا وأمرت بوقف العمليات العسكرية فورا! ذلك القرار الذي تجاهلته روسيا وكأن أحكام محكمة العدل هي مجرد حبر على ورق.
يبرر المدافعون عن قرار المحكمة بأن النظام الدولي معقد من حيث صلاحيات الهيئات والأجهزة وبأنه ليس بكامل، وبه ثغرات يمكن استخدامها لصالح القضية، وهذه حقيقة فالنظام الدولي بالفعل ليس نظاما مثاليا ولكن هذا لا يرجع لقصور في تخطيطه وتنفيذه، بل يعود إلى تشابك وتضارب مصالح الدول الكبرى المؤسسة له، وإلى قوتها العسكرية، وامتداد وقوة نفوذها، لذلك فالثغرات المقصودة فيه لا تستطيع الدول الصغيرة استغلالها أو النفاذ من خلالها، لأنها ستغلق في وجهها إما اقتصاديا أو عسكريا.
يستبشر بعض المتفائلين برفض المحكمة رد الدعوى ضد الكيان وأستبشر أيضا ، لكن مع ملاحظة أنها لا تملك إلا أن تقبلها لأنه أحد الموقعين على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية. من المفارقات المدهشة، أن الكيان الذي صيغ من أجله مصطلح الإبادة الجماعية وعقدت لحمايته اتفاقية منع هذه الجريمة هو من يحاكم اليوم بذات الاتهام.
اعتاد الكيان المحتل على وصف هيئة الأمم المتحدة ووكالاتها بما في ذلك المحاكم الدولية بالتحيز لصالح أعدائه وقاطعها ولم يعترف بسلطتها، لكنه انجر اليوم ليمثل أمام قضاتها، فهل يدل هذا على ضعف موقفه أم على شعوره بالقوة والسيطرة على الأرض الفلسطينية كلها، ورغبته فى انهاء القضية بالإعلان عن دولته الموحدة؟ وهل يستخدم قراره القضاء على حماس كستار لغزو غزة والخلاص من حل الدولتين للأبد؟
لا تتمتع المحكمة الدولية بفصل كامل بين السلطات، حيث يستطيع الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن استخدام حق النقض على إنفاذ حكمها، واختصاصها القضائي ليس له قوة ملزمة بحد ذاته، ولا توجد طريقة لإجبار الكيان المحتل على الامتثال، ولا توجد لديها وسيلة لتنفيذ حكمها بنفسها، لذلك فهي تعتمد على امتثال الكيان وعلى ضغط الجهات الفاعلة دوليا.
تعد المحكمة الجنائية الدولية أكثر فعالية تجاه الانتهاكات الجسيمة في فلسطين وخاصة أنها امتلكت الشجاعة الكافية لإصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على خلفية هجومه على أوكرانيا، لكن المحكمة تعتبر نفسها غير معنية بالقضية الفلسطينية حيث أن الكيان ليس عضوا فيها رغم أنها أصدرت مذكرة بتوقيف عمر البشير رئيس السودان التي ليست عضوا فيها.
قدم مئات المحامين والهيئات الحقوقية من مختلف أنحاء العالم دعوى قضائية للمدعي العام للجنائية الدولية تطالب بفتح تحقيق في الفظائع التي ارتكبها الاحتلال في حق الفلسطينيين، وهؤلاء يحتاجون لكثير من الدعم نظرا لما تقدمه أنظمة اقتصادية كبرى تعتبر افلات الكيان من المحاسبة مسألة حياة أو موت.
في الحقيقة، لا أعول كثيرا على أحكام نظام دولي أسس لرعاية مصالح دول كبرى، وهذا أمر طبيعي، فالمنتصر هو من يرسم الخريطة، لكني أطمع في معجزة إلهية تعيد الأمن والاستقرار لأبرياء هجروا وجردوا من أبسط معاني الحياة.