في جو من الارهاب الفكري المشحون بالمبارزات الكلامية والغمز والهمز واللمز والاتهامات بخلل في العقيدة وانعدام الوطنية، والانقياد الأعمى تحت لواء فكرة أو نقيضها قد ختم على غلافيهما باعتمادهما كمسلمتين محكوم على من يخالفهما بالإعدام رميا بالكفر أو الخيانة، وبتطرف بغيض يفرضه طرفان يتنازعان على ما هو أكبر من قضية تعني العرب، انطلقت سلسلة من الهجوم والهجوم المضاد في وقت لا يجب أن يشغل المسلمين فيه سوى أن يلهم الله المقاومة الفلسطينية الرشد، ويمدهم بجنوده، وأن يوقف إبادة أهلنا في غزة وينزل عليهم السكينة والرحمة.
تلتقط الكاميرات مشاهد قصف وبتر، وهدم، وقتل، وتجويع، وتشريد، وفقد، واستغاثة، وتتركنا عالقين عاجزين لا ندري كيف سيتخطى انسان كل هذا الألم.
لا تفيق الشعوب أبدا من كابوس المجازر، قد تتحسن الأحوال بمرور الأيام، لكن قنبلة الفزع والحسرة التي انفجرت في الصدور تحدث تشوهات تستعصي على أمهر الأطباء.
لا أستطيع أن أتصور شعور أهل غزة بعد توقف آلة الحرب، ولا أجرؤ على تخيل وجوه كل من فقدوا أحبابهم، في ظني كل مؤتمرات اعمار العالم لن تستطيع أن تبني جدارا هدم في قلب أم أو أن ترتب فوضى أسرة شردت، إن من يلوم فئة من المكلومين على أشباح اعتراض على كل ما يجري بالتأكيد لم يذق طعم الخوف.
انقسم المتكلمون في شأن طوفان السابع من أكتوبر إلى جهتين:
الأولى: قدست حماس وحولتها لمقام يتعبد لله بالتمسح به، ودمجت المسجد الأقصى والحركة في قضية واحدة، وحولت كل من يلقي الضوء على مساحات أخرى تربط الماضي بالحاضر، والجغرافيا بالتاريخ إلى مرجف مخذل متصهين متخل عن أولى القبلتين.
والثانية: وصمت الحركة بكل رذيلة، وحولتها لحائط رجم، وعلقت في رقبتها الدماء والهدم، ومزقت لحمها وطحنت عظمها متعللة بحجم الخراب وأعداد الضحايا وكم الخسائر.
والحقيقة أن مناقشة أي حدث بالتغاضي عن تفاصيله والاكتفاء بالعناوين الرئيسية التي تخضع لسياسات المؤسسات الإخبارية سوف تصل بالتأكيد لنتائج خاطئة، فالحكم على أداء حركة أو تقييم أحداث حرب لابد أن يأخذ بعض الحقائق المؤكدة في الاعتبار:
أولا:
أن كل المناوشات التصاعدية ما هي إلا محاولات لتجنب الصدام المباشر إلى أن تصل الأطراف إلى المواجهة المحتومة، لذلك كانت الانتفاضات الفلسطينية المتباينة في الشدة منذ احتلال الأرض بعد الحرب العالمية ما هي إلا موجات عالية تنذر بتسونامي مدمر.
ثانيا:
أن كل تفصيلة تاريخية عتيقة هي جزء من الحاضر، مهما حاول المحللون تناسيها أو فصلها عن نهر الأحداث.
ثالثا:
أن حصان كل جماعة أو حركة أو جيش يعدل أسلوب قفزه بحسب الفارس الممسك بزمام قيادته حتى لو كانت قواعد اللعبة واحدة.
رابعا:
أن من يصنع السلاح ويعرض التمويل له الكلمة الأخيرة، فالدول لا تمنح الدعم الحربي لوجه الله، أو حفاظا على المبادئ والقيم.
خامسا:
أن المثالية المفرطة في رسم تصورات عن نوايا الأطراف هي خطأ يترتب عليه أحكام كارثية.
سادسا:
أن الطريق الواسع الفاصل بين الحق والباطل، والواقع والوهم، يصير بمرور الوقت دقيقا كالشعرة، فالمحن تبدأ صغيرة تقسم الناس لفسطاطين أحدهما يبصر الحقيقة والآخر يرى سرابا، ثم تتغذى الابتلاءات على الزيف وتنمو وتتوحش فتزداد المساحات المشتركة بين القسط والضلال، وتتشابك المواقف، وتصبح الفتنة كقطع الليل المظلم، حيث يصبح الرجل صالحا ويمسي فاسدا، ويمسي الرجل سليم القلب ويصبح منافقا.
سابعا:
قد يصنع العدو من القضايا المصيرية المقدسة حصان طروادة ويختبئ بداخله، فيكسب معركته، فيضل سعي أهل الحق وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ثامنا:
عادة ما يكون لكل مجرم تلميذ منشق يرى نفسه الأجدر بالقيادة، لذلك يقوم بتسليط الضوء على جرائم الأستاذ لتنهال على رأسه الاتهامات أملا في ازاحته، وهنا للأسف يختلط الأمر على أهل الشرف فيظنون أن عدو عدوهم صديق محتمل، فيتعاونون معه دون ان يفطنوا إلى أنه يلعب على أوتار أعمق احتياجاتهم.
تاسعا:
للعالم قطبان قوة وإن كتبت كل الأقلام عن قطب واحد، ويهود العالم ليسوا صهاينة الغرب وحدهم، فهناك صهاينة شرقيون أيضا، دعمت الرأسمالية الإنجليزية القائدة الغربيين، وأعانت فرنسا الاشتراكية الثائرة الشرقيين، تتزعم الأولى عبر الكيان اللقيط، وتزاحم الثانية من خلال طموح إيران.
عاشرا:
الكتابة عن حدث معقد تكون بالضبط كإجراء عملية جراحية دقيقة، تتطلب دراسة متعمقة، وتوصيفا محددا، ويدا نظيفة غير مرتعشة تمسك بالمشرط، وعلى أهل المريض أن يستوعبوا أن تمدد الورم داخل الخلايا السليمة لا يعني فساد الجسد كله، وأن وصف العلاج بأنه سام حارق لا يجعل الطبيب خائنا لمهنته أو قاتلا لمريضه.
حادي عشر:
تحمل المحطات الإخبارية سواء الداعمة أو المناهضة للقضايا الشريفة مصالح الدول الممولة لها.
ثاني عشر:
يتوجب على من يفسر الأحداث أن يعامل اعلام العدو معاملة الاسرائيليات «لا يصدق ولا يكذب»، ولا يصح الاستشهاد به لإثبات وجهات النظر مهما كان مطابقا للواقع أو لتوقعات المتلقي إلا بشروط محددة.
ثالث عشر،
عند تحليل موقف سياسي أو تفسير حدث تاريخي، يجب على القارئ أن يتوخى الحذر الشديد عند عبور سفن أفكاره عبر مضائق شديدة الخطورة تفصل بين محيطات الضلال وبحار الحقيقة، يربض على شاطئيها جبال قاسية كئيبة من الخوف والتغييب لا تكاد مركب تمر من خلالها إلا ومزقت شراع انصافها، تعشش في كهوفها خفافيش اتهامات تهاجمه وتدفعه للترا جع نحو الوهم الآمن.
رابع عشر،
برغم التسليم بأن هجمة الغرب والشرق على أراضي الخلافات الإسلامية المتعاقبة هي يقينا حرب على الإسلام، إلا أن دافع هؤلاء الأقوى هو المال، ولأنهم عانوا من الضياع على المستويين الاقتصادي والاجتماعي طوال فترات عزة المسلمين فقد أدركوا أن استصدار نسخة مشوهة من الإسلام على غرار الطبعة المسيحية واليهودية هو الحل الوحيد للسيطرة المادية والمعنوية واستعادة أمجاد امبراطورياتهم القديمة.
خامس عشر،
على المتلقي أن ينتبه حين تمارس عليه ضغوط استنزاف عاطفي عنيف يستهدف ساقيه ليسقط فلا يرى صورته في مرآة نفسه سوى كتلة من اللحم العفن الراكعة؛ من سوء تقدير من يمارس هذه اللعبة مع الشعوب أنها لا تزيدهم إلا موتا وارهاقا وذلا.
سادس عشر،
إن قضاء الأفراد على ما يمر أمامهم من شخصيات وأحداث يجب أن يراعي درجات كل فتوى، فعلى سبيل المثال: الأمانة درجات وكذلك الخيانة، وبينهما طيف واسع من الأحكام.
وأخيرا،
إن مفتاح الحكم السليم على الوقائع السياسية هو ترتيب الأخبار والاستزادة من التفاصيل وربطها بالتاريخ بعيدا عن الحب والكراهية والظنون والأهواء والحزبية، والتعامل مع الأحداث كالمسائل الرياضية، والالتزام بالمعطيات والمطلوب والبحث عن البرهان، أو كالقضايا الفلسفية، حيث التقيد بالمقدمات والتوالي، مع الإيمان العميق بأن قدر الله نافذ برغم المعطيات والمقدمات.