مقالات

رانيا مصطفى تكتب: «هسهس» 25 يناير

لا يفتأ منقلب مصر يذكر الخامس والعشرين من يناير حتى يكون بإذن الله حرضا أو أن يكون من الهالكين، فهو لا يترك مناسبة إلا ويؤكد أنه لا ينساها ولن يسمح بتكرارها، ويعتبرها شجرة عيد مولده التي يعلق عليها ديونه وسوء تدبيره وفشل حكمه، وينسب إليها ضياع السياسة والاقتصاد والدين، ويبني من رمال الخوف منها خط بارليف جديد مستغلا اشتعال حدود مصر شرقا وغربا وجنوبا.

بحسب تعبيره، يرى البطل الورقي أن ثورة يناير كانت علاجا خاطئا لتشخيص خاطئ حيث أنها استهدفت رأس المؤسسة العسكرية المسيطرة على مفاصل الدولة، كما استهدفت أحد أجنحتها وهي وزارة الداخلية، ما أدى “إفراز” حالة فككت مؤسسات الدولة، وعندما قام الشعب عديم النضج من وجهة نظره بانتخاب برلمان ورئيس، جلب الخراب والدمار والارهاب.

ويتساءل الجميع، لماذا يخشى المنقلب ثورة يناير إلى هذا الحد برغم أنه أصبح متمكنا من أدواته التنفيذية الداخلية ومتلاعبا بعلاقاته الخارجية بشكل يضمن بقاءه على كرسيه؟

إن ثورات الربيع العربي لم تكن ثورات خالصة الطهر والنقاء، بل كانت بالفعل جزءا من مخطط كبير لتغيير وجه العالم الذي رضخ لعقود طويلة لنتائج الحرب العالمية الثانية، وبين الحين والآخر تحدث مناوشات بين القوتين التقليديتين في العالم وهي القوى الاشتراكية في مواجهة القوة الرأسمالية، ونظرا لتطور القوتين ولخسائرهما في حروبهما الطويلة، قررتا أن تكون الأطراف المتصارعة في مناطق نفوذهما من أبناء تلك البلاد، وبهذه الطريقة تتم الثورة في المنطقة المستهدفة ويتم الانقلاب عليها أيضا.

أتفق مع تعرض مصر في ثورة يناير لمؤامرة ولكني لا أرى من أيدوها سلميا متآمرين خونة، بل أراهم كجنود حرب أكتوبر، حققوا نصرا فسلب منهم وانقلب إلى هزيمة بعد عقد معاهدة كامب ديفيد جديدة في 2013.

نظرية المؤامرة حقيقة لا يجب أن نتهرب منها خشية أن نتهم بالجهل أو العجز أو الخيانة، لكن مع ذلك، لابد أن ندرك جيدا أن الرياح لا تجري دائما كما تشتهي سفن المجرم، وأن الأمور تجري بمقادير، وأنه برغم تخطيطه المتقن حدثت مفاجآت حاصرته فلم يجد منها مهربا سوى بارتكاب مجازر لم يجد لها غرابا يعلمه كيف يواري سوأتها.

أتعجب كثيرا عندما يترحم الناس اليوم على مبارك وقد كان ظالم اليوم هو اختياره ليشغل منصب رئيس المخابرات الحربية، وأتعجب أكثر عندما يغفلون عن أن شاغل هذا المنصب لابد أن يكون على دراية بكل كبيرة وصغيرة تحدث على أرض مصر، أي أن مواربة باب الثورة لم تكن لتمر هكذا دون أن يعرف.

إن خطابات المنقلب المتتالية التي حكى فيها لشعبه عن دراسته الطويلة لأحوال مصر، وأحلامه لتطويرها، ومنامه الذي نبأه بأنه سيكون رئيسا لمصر، واختيار المجلس العسكري له هو بالذات ليكون حلقة وصل بينه وبين مكونات القوى الثورية، وهجومه المستمر على حكم مبارك وهدمه المتأني لأركان حكمه ودفنه لرجال اقتصاده، والروح الشبايبة التي ظهرت على ضباط القوات المسلحة الذين انضموا لميدان التحرير أثناء الثورة، وسير الأحداث المرتب بدقة أثناء الثورة من نشر وسحب قوات الجيش إلى تفريغ مقرات أمن الدولة، واقراره بأن مبلغا بسيطا من المال مع شريط مخدر كفيلان بإشعال ثورة، واجراءاته الأمنية المشددة التي من ضمنها المبالغة في بناء بوابات بين المحافظات تضمن حبس المواطنين في محافظاتهم واستمرار الاعتقالات بتهم وهمية لإرهاب الشعب، كل هذا وأكثر يجعلني أقول بكل اطمئنان أن السيسي كان هو مفتاح ثورة 25 يناير.

تساءل الأستاذ حازم أبو اسماعيل بحسرة لماذا تنتهي ثورات المصريين دائما بالفشل؟ وأجيب أن السبب لا يكمن في نقص وعي الشعب ولا في تقصير القوى الوطنية، فبرغم انتقادات الجميع للثورة وما تلاها، أرى أن الفترة من 2011 وحتى 2013 يجب أن تدرس في كليات العلوم السياسية كأذكى ثورة في العالم دون مبالغة. يا قوم كفاكم استجابة لتقزيم الآخر لكم، فالمصريون بالفعل أذكياء وبرغم كل التجاوزات متدينين بالفطرة.

مشكلة ثورات مصر -بغض النظر عن تحفظاتي عليها- وثورات المنطقة هي عدم تكافؤ القوى، فثورة المصريين مثلا أثناء الحملة الفرنسية قمعت بمدافع فرنسا، وثورة عرابي اقتلعها الأسطول البريطاني، وثورة 1919 أخمدتها الدول الاستعمارية الكبرى، وثورة 1952 تحكمت فيها الدول المتقدمة عسكريا، أما ثورة 2011 فكان التفوق العسكري لجيش ينوب عن قوة خارجية.

تذكروا معي شكل الحروب قديما عندما كان سر صناعة السلاح ليس حكرا على طرف، عندما كانت الشعوب حرة الاجتهاد والابتكار والتصنيع، كانت شعوبنا تنتصر تارة وتنهزم تارة، أما اليوم، فبلادنا تئن تحت عجلات حكم فاقد الحكمة والعلم والأهلية والهوية، وهنا أذكركم أن من ضمن أهم الأسباب التي هاج بسببها المستعمر الخفي، هو أن شعبنا اختار رجل علم أصدر تصريحا غاية في الخطورة، عرف قدره العدو وبخس حقه الحبيب وهو «أن علينا أن نملك سلاحنا وغذاءنا ودواءنا»، لقد ذكر أعمق ثلاث مقومات للنهوض، لذا أسرعوا بتشويهه والخلاص منه.

قد يقول قائل، أغفلتِ عامل الخيانة وقلة الوعي، وأقول، إن الخيانة كانت موجودة منذ أقدم العصور، والشعوب كلها ذات طبيعة واحدة وتتوفر فيها جميعا طبقات منخفضة الوعي، وهذان أمران يمكن التغلب عليهما إذا ما امتلكت الشعوب عناصر قوتها.

يرى بعض المتحمسين أن الحل في تسليح الثورة، لكن المشكلة أن النتيجة محسومة مسبقا، قرأناها في كتب التاريخ وشاهدناها بأم أعيننا، ففي النهاية سينحصر الصراع داخل الأمة الواحدة وستمد القوى المتصارعة كل طرف بالسلاح، وسيتحول الأمر لحرب أهلية وسيتحول الثوار في نظر مواطنيهم إلى ميليشيات تعبث باستقرار الوطن وتحارب الجيش الرسمي حامي الحمى، وستضيع القضية وتهدر الدماء ويدخل أهل البلاد نفقا مظلما وسيشرب المستعمرون نخب الانهيار.

أعلم أننا نعيش داخل نفق مظلم أيضا، لكن الخضوع لمستعمر آخر ليمدنا بسلاح في مقابل حريتنا التي نسعى للحصول عليها من الطرف الذي نناضل ضده، هو نوع من العبث، سيكون ذلك بمثابة تلقي علاج يسبب فشل كلوي بغرض الخلاص من ورم خبيث.

يقتل المنقلب الصبيان، ويلقي الصغير في الجب، لكن أمر الله إذا جاء سيشق موسى البحر ويغرقه، وسيصبح يوسف أمينا على خزائن الأرض ويخضعه.

هل تظنون أن عصر المعجزات انتهى؟

انتظروا وسترون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى