رانيا مصطفي تكتب: سلميتنا.. أقوى من الفتنة
هذا المقال كتبته قبل نحو تسعة أعوام، ورأيت اعادة نشره اليوم لما أثير من جدل حول جدوى السلمية التي أصبحت حائط رجم يفرغ فيه كل من مهزوم يائس شحنة غضبه..
حدث أن مرت بي لحظات غضب وسخط على شعار «سلميتنا.. أقوى من الرصاص» الذي بدا لي أجوف بعد محنة رابعة والنهضة وغيرها من المجازر التي أدمت العيون والقلوب..
أي سلمية تلك في مواجهة قتلة يزهقون الأرواح بدم بارد؟! كيف لا توجد وسيلة ليدافعوا بها عن أنفسهم
حدث أن مرت بي لحظات غضب وسخط على هذا الشعار الذي بدا لي أجوف بعد محنة رابعة والنهضة وغيرها من المجازر التي أدمت العيون والقلوب..
أيُّ سلمية تلك في مواجهة قتلة يزهقون الأرواح بدم بارد؟! كيف لا توجد وسيلة ليدافعوا بها عن أنفسهم؟!
كيف يرمون أنفسهم كل مرة بهذه السهولة إلى التهلكة؟!
أبكتني كما أبكتكم مشاهد القتل والسحل.. أعيتني مشاهد الاعتقال.. عذبت روحي قصص الاغتصاب..
وطرأ بذهني سؤال.. ترى ما الذي استند إليه مرشدهم ليقرر أن السلمية التي تناقض الفعل الثوري هي ركيزة أي إجراء قادم لمواجهة الظلم؟!
هل هناك تأصيل شرعي لما نادى به وسط ميدان رابعة فكان نداءً ورمزًا ووصية فيما بعد؟!
في الوقت ذاته.. تعالت أصوات من يحسبون على التيار السلفي أن اعتزلوا يا قوم.. فالفتنة حضرت.. الزموا البيوت.. صموا الآذان.. أطبقوا الشفاه..
شيوخٌ حسبناهم على خيرٍ
لمع مجموعة من الشيوخ حسبناهم على خير في العشر سنوات الأخيرة من عهد مبارك..
لم أتعجب كثيرا من إفراد مساحات كبيرة لهم على الشاشات وفي الساحات لأنهم لم يتحدثوا سوى في الأمور الفقهية والروحية بعيدا عن السياسة..
وكنت راضية بهذا القدر على طريقة (أحسن من مفيش)..
كانوا يمدون الناس بالأمل في الله وحسن الظن به..
كان منهم من ينادى بأن يكون الناس حرسا لحدود الله إلى الحد الذي حكى ذات مرة أنه حين عاد لمنزله وجد أحد الشباب ينام على عتبة داره وحين أيقظه وسأله عن سبب ذلك أخبره الشاب أنه يريد أن يكون من حرس الحدود هؤلاء..
إلى هذا الحد كان حب الناس لهم.. كانوا يحثون النساء على ارتداء النقاب ويطالبونهن أن يثبتن في وجه نظام يريد أن يرغمهن على نزعه..
كانوا يطالبون الناس بالثبات على أصول الدين ولو كان كل فرد يقف وحده أمام الباطل..
في هذا الوقت لم أكن أعلم أن حتى الدين يمكن أن يصبح أفيون للشعوب مثله كمثل كرة القدم والفن..
لا أشكك في نوايا الشيوخ الأفاضل ولا أتهمهم كما أنى لا أريد الإيحاء من طرف خفي إلى ضعف فيهم للنيل منهم..
فربما هم أيضا اكتفوا بتلك المساحات من باب تعليم الناس والدعوة لصحوة دينية ربما تتبعها صحوة أخلاقية وسياسية على المدى البعيد..
فليس كل الشيوخ هم عبد الحميد كشك ولا صلاح أبو إسماعيل ولا المحلاوي..
ولا أتحدث هنا عن انضمامهم للثورة من عدمه أو تحريمهم الخروج على الحاكم.. فربما شابت هذه المرحلة بعض الغموض..
وربما كان هناك فسحة وقتها للاختلاف حول تأصيلها الشرعي..
ما يهمني في هذا المقال.. هي تلك الفترة واضحة المعالم التي صاحبت الانقلاب..
وردة فعلهم على ما حدث فيها من كوارث جعلت الحليم حيران..
حتى أن الدكتور حسن الشافعي مستشار شيخ الأزهر آن ذاك لم يتحمل وأعلن عدم شرعية ما يحدث وأنه يبرأ إلى الله تعالى منه.. برغم حساسية منصبه وكبر سنه..
كما أعلن الدكتور محمد عمارة المفكر الإسلامي بشكل واضح رفضه كل ما يجرى..
انتظرت أن تتوالى بعدها إعلانات الرفض والشجب المبنية على أسس شرعية لتجلى ضبابية الموقف…
فلم أسمع صوتا للمشايخ الكبار.. إلا بعد حين من الدهر حين أعلنوا اعتزالهم.
ما معنى الفتنة؟!
عندها تصارعت الأسئلة في رأسي.. ما معنى الفتنة؟! أليست الفتنة هي شر وجب عليهم تفنيدها وشرحها!
ألا يجب أن تكون هذه الفتنة بين حق وباطل؟!
ألَا يجب عليهم تبيان أيهما هو جانب الحق لنلتزمه! ألا يجب أن يستقر في قلوبنا الحق لنلقى الله به؟!
لا يمكن أن تكون هناك منطقة رمادية.. ليس هناك مكان بين الجنة والنار.. لابد وأن يكون هناك أمر فصل في هذا الموضوع!
ما أصابني بالذهول وقتها ليس اعتزال العلماء.. فهذا أمر فعله الصحابة الكرام..
ولكن تفسيرهم لسبب الاعتزال هو ما أصابني بالدهشة! كان التفسير هو أن الأمر كله باطل..
فدعوة الناس للديمقراطية هي حرام محض وبالتالي فخروج الناس لاستعادة الحقوق تحت لواءها لا يجوز!
لا أنكر عليهم فكرة أن الديمقراطية بطريقة الغرب حرام.. ولكن أنكر عليهم أنهم لم يكيفوا أمور الدين بما يواكب ما نعيشه اليوم! وكان الأغرب بالنسبة لي تشبيههم ما حدث من انقلاب بفتنة على ومعاوية؟!!!
فتنة بين حق وحق.. وأخرى بين حق وباطل
فتنة على ومعاوية كانت صراع بين حق وحق.. ما يدور اليوم يا شيوخنا الكرام بين حق وباطل..
أنساوى بين من اختلفوا على القصاص من قتلة خليفة المسلمين.. وبين من اختطف رئيس شرعي وسفك دما وهتك عرضا؟!
قالوا إنهم قد اعتزلوا خوفا على الدين.. فأين الدين؟!
ذكروني بمكسب واحد للدين بعد اعتزالكم.. حتى إن النار قد طالت أثوابكم..
فما عاد الناس يحترمون أي شيخ اليوم.. ولا أي فتوى.. منعتم من منابركم.. حددت خطبكم وإقامتكم..
عدتم لقنواتكم التي أتحدى أن تصل نسبة مشاهدتكم فيها ربع النسبة التي تفاخرتم بها يوما..
يسير الناس للوراء نحو الجاهلية كل يوم ولا يشعرون.. كل منهم أصبح شيخ نفسه..
أعلم أن للناس كفل من الأمر فهم من ارتضى العودة.. ولكن قلتم لنا يوما أننا عندما نسير على طريق مظلم فعلينا أن نتبع مصابيح السيارة التي تتقدمنا..
وأن الشيوخ هم تلك المصابيح.. أغلقت المصابيح للصيانة.. فتصادمت كل المركبات خلفها وتحطمت.. إلى أن كسرت تلك المصابيح.
أعلن من سفك الدماء أنه هو المسئول الحصري عن الدين وسكتم.. قتل من قتل وذبح من ذبح وسكتم.. هتكت الأعراض وسكتم..
ورغما عنى أقارن صمتكم اليوم بموقفكم في عهد مرسي حين ناديتم أن أجمعوا أمركم فالرجل يريد أن يضع يده في يد الشيعة..
وكأنهم يختلفون عن اليهود الذين نضطر لمعاهدتهم أوعن الغرب الذي تربطنا به علاقات لا يمكن حلها..
صرختم أنه سيقترض بالربا من البنك الدولي الذي هو نظام مكبل من ضمن الأنظمة التي كبلت العالم كله اقتصاديا ولا توجد دولة توشك على الإفلاس ان تفلت منه.. صرختم أن الرجل لا يطبق الشريعة ولذلك حلت عليه لعنة الله وجرى ما جرى..
هوْل المذابح واعتزالُ الشيوخ
أخفتم أن تصرخوا ألما من مشاهد لن تزول من صدور ذبحت من هول ما رأت؟!
يقولون كوني رؤوفة بحالهم فهم مرضى.. وأقول وهل كان الشيخ أحمد ياسين سليما معافي؟!
هل كان الشيوخ فوزي السعيد ونشأت أحمد ومحمد عبد المقصود وأحمد المحلاوي في حال أفضل منهم؟!
إن اعتزال الشيوخ عزل معهم شريحة كبيرة محبة تعتبر كلمتهم سيف على الرقاب..
ولا يمكن أن يقول منهم قائل إن قرار اعتزالنا يخصنا كأفراد.. فهم ليسوا شيوخا مغمورين لا يعلم عنهم أحد.. هم شيوخ كبار لهم ملايين المتابعين..
إذًا فهم مسئولون عمن تبعهم في الفكر والتصرف.. ومسئولون بشكل جزئي عن إضعاف جانب أول رئيس إسلامي تحظى به مصر في تاريخها..
لم أكتب هذا المقال هجوما على شيوخنا الكرام.. فما فات قد فات.. ولا أستمتع بنقدهم فهذا من الأمور التي أتأذى من فعلها..
فأنا حقا لا شيء في العلم الشرعي أمام هؤلاء الكبار.. ولكن فقط أحكم على ما آلت إليه الأمور.
وليطمئن قلبي بحثت لأعرف تصنيف ما نمر به من فتن.. فقرأت وقرأت..
وما خلصت إليه في النهاية أن الفتنة لا تصبح فتنة إلا إذا رفع كلا الطرفين السلاح كل في وجه الآخر..
ولا أدرى لِمَ يدرج الشيوخ تلك الاعتصامات والتظاهرات السلمية لمؤيدي الشرعية في فصل قول الحق في وجه حاكم ظالم؟!
إن تصنيفهم الأمر بهذا الشكل لا معنى له سوى أنهم يؤكدون أن مؤيدي شرعية مرسي بالفعل يقومون بأعمال عنف وأنهم يرفعون سلاحا مثلما يفعل النظام..
ولذلك -في نظرهم- وجب اعتزال الأمر لأنه دخل في حيز الفتنة.
بحثت في أحاديث الفتن لأقف على الحقيقة.. أنعتزل كما فعل شيوخنا أم نقف في وجه الظلم بسلمية كما فعل الاخوان؟!!
أهي فتنة كفتنة معاوية وعلى.. أم هي حرب على الإسلام؟! أنتحدث أم نصمت؟!
فتنة معاوية وعلى كان فيها طرفان؛ حق وباطل
أعدت قراءة قصة فتنة معاوية وعلى مرات.. وانتهيت إلى أن حتى هذه الفتنة كان فيها طرف حق وآخر باطل على الرغم من نبل الهدف..
فما بالنا بما نعيشه من باطل بيِّن.. كما استوقفتني أحاديث تؤكد فكرة السلمية أمام كل ما يقوم به النظام من عمليات بطش وقتل واعتقال.. فتكاملت أمامي الصورة..
نحن أمام حرب على ديننا وما تقوم به فئة من خروج سلمى ما هو إلا إعلاء لكلمة حق في وجه سلطان غاصب جائر..
ما نحن فيه فتنة حقا.. ولكنها ليست كفتنة معاوية وعلى..
اخترت لكم هنا حديثين عن الرسول صلى الله عليه وسلم يرسخان مبدأ السلمية في وقت الفتن..
جاء في حديث سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
(يا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ إن دخل عَلَيَّ بَيْتِي وَبَسَطَ يَدَهُ لِيَقْتُلَنِي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كُنْ كَابْنَيْ آدَمَ) رواه أبو داود.
وفي حديث أبي ذَرٍّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في قتال الفتنة:
(اقْعُدْ في بَيْتِكَ وأغلق عَلَيْكَ بَابَكَ، قال: فإنْ لم أُتْرَكْ؟ قال: فَائْتِ من أنت منهم فَكُنْ فِيهِمْ، قال: فَآخُذُ سلاحي؟ قال: إِذن تُشَارِكَهُمْ فِيمَا هُمْ فيه وَلَكِنْ إنْ خَشِيتَ أن يَرُوعَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ فألق طَرَفَ رِدَائِكَ على وَجْهِكَ حتى يَبُوءَ بِإِثْمِهِ وإثمك) رواه أحمد.
السلمية ليست بدعة
كانت هذه الأحاديث هي الدليل على أن السلمية ليست أمرا مستحدثا ابتدعه الدكتور بديع.. ولكنه أمر شرعي.. أعلم أن هناك من سيشير إلى أن الأحاديث توصى بلزوم الدار.. بلى..
ولكن ما فهمته منها أيضا أن هناك فئتين تتقاتلان بالفعل وهذا ما لم يحدث في حالتنا..
فنحن لدينا طرف قاتل وآخر مقتول.. طرف باغ وطرف محتسب..
لذا وجب علينا التوقف عن لعن السلمية فلولاها لنفذنا لأعدائنا أهدافهم الخبيثة منذ بدء الثورة..
تلك التي تحدث البرادعي عنها في كثير من تغريداته.. فكم مرة ذكر الحرب الأهلية..
وكم مرة كادت أن تحدث بالفعل لولا أن الله سلم …
ما أريد قوله في النهاية أننا في معركة بين حق وباطل.. معركة دفاع عن دين وإن لم يعترف بذلك أحد..
الغريب أن كثير من مقاطع الفيديو لمسئولين كبار من دول الغرب تكلموا فيها صراحة ولفظا عن أنهم يحاربون الإسلام السني وأنه لديهم هو مرادف صريح للإرهاب..
ومع ذلك نجد من بنى جلدتنا من يكذب الأمر..
والأسوأ أن يلتزم شيوخنا الصمت في عمق الأزمة.. حين يحتاج الدين حقا إلى حرس حدود.