رجل الدعوة والمواقف.. الشيخ محمد حميد الدين عاقل الحسامي (٢)
كان الشيخ محمد حميد الدين عاقل الحسامي سر قوة مسلمي حيدرآباد، بل مسلمی الولاية كلها، ونعمةً من الله عليهم وبركةَ العصر بالنسبة لهم، يلجؤون إليه كلما دهمتهم الخطوب.
محمد نعمان الدين الندوي
سر قوة مسلمي حيدر آباد
نعم. كان الشيخ ـ بدون شك – سر قوة مسلمي حيدرآباد، بل مسلمی الولاية كلها، ونعمةً من الله عليهم وبركةَ العصر بالنسبة لهم، فلم يكونوا يرجعون إليه فيما يهمهم من أمور دينهم فقط، بل كانوا يلجؤون إليه ـ أيضا – كلما دهمتهم الخطوب، ويفزعون إليه كلما حاق بهم اليأس، ويهرعون إليه إذا واجهوا قضية أو مشكلة، فيجدون عنده المشورة السديدة والنصيحة والخير، وكان الشيخ ـ بدوره – يجمع القيادات الإسلامية من جميع التيارات وذوي الانتماءات والتوجهات المختلفة إذا واجه المسلمون مشكلة سياسية أو أزمة مَلّيّة يشاورهم، ويحترم آراء الجميع، ولا يحسم أمرًا يخص الأمة إلا بعد التشاور، وكان عمله بهذه القاعدة الذهبية: ” نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه “:
كان الشيخ محمد حميد الدين عاقل الحسامي سر قوة مسلمي حيدرآباد، بل مسلمی الولاية كلها، ونعمةً من الله عليهم وبركةَ العصر بالنسبة لهم، يلجؤون إليه ـ أيضا – كلما دهمتهم الخطوب.
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به
رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها
وهذا هو منهج السلف رحمهم الله، فمن ذلك ما ينسب إلى الإمام الشافعي – رحمه الله – قولُه: ” والله ما أبالي أن يظهر الحق على لساني أو على لسان خصمي “.
ومما ورد حول أهمية الشورى قول بعض أهل العلم: «شورى من الحجاج خير من رأي الفرد ولو كان عمر»، وفوق ذلك كله أن الرسول صلى الله عليه وسلم – وهو خاتم الرسل – أُمر بالمشاورة: {وشاورهم في الأمر}، فالاختلاف الشكلي لا يستدعى التفرق، ولا يفسد للود قضية، وينبغى أن يكون تعاملنا معه – الاختلاف الشكلي – كما كان تعامل سعد بن أبي وقاص مع خالد بن الوليد، إذ يروى أنه نشب خلاف بين سعد وخالد، ولكل منها مكانته الجليلة في الإسلام، فأتى رجل من أتباع سعد، فقال له: إن خالدًا يتكلم ويقول عنك كذا وكذا، فقال له سعد قولة تستحق أن تكتب بماء الذهب: “مه.. إن الذي بيننا لم يبلغ ديننا”، وكذلك ذكرت الكتب أن الإمام الشافعي رحمه الله اختلف مع أحد الأئمة في زمنه، فتفرقا ثم كان لقاء بينهما، فقال له الشافعي: ” يا أخي ما يمنع أن نكون إخوة وإن لم نتفق “.
وهكذا ظل تعامل الشيخ الحسامي مع التيارات والاتجاهات الإسلامية المختلفة طول حياته، فحظي بحب واحترام الجميع، هذا إذا لم يكن الاختلاف يمس العقيدة والثوابت والمبادئ الأساسية للدين، أما إذا كان الأمر أمر العقيدة والدين، فكان من أشد الناس غيرة على دين الله وحرماته، ولا يقبل أي نوع من المساومة أو المهادنة في ذلك، كما كان شأنه مع المبتدعة والشيعة والقاديانية والفرق الضالة الأخرى، التي كان الشيخ الحسامي بالنسبة لها – فعلًا – حسامًا صارمًا، وسيفا من سيوف الله مسلولا، يقطع انحرافها بحد بيانه الحاسم!
الشيخ قائدًا وزعيمًا للأمة
لم يعش الشيخ الحسامي – رحمه الله – لنفسه ساعة، فقد كان همُّه الأمةَ قبل نفسه، والدعوةَ قبل بيته، يحمل في وجدانه وقلبه هموم أمته، توفيت زوجته وهو شاب، ولكنه لم يتزوج ثانية، وآثر على ذلك أن يتفرغ لأعمال الأمة من الدعوة والإصلاح والتعليم والتربية.
فلم يكن الشيخ رجل المنبر والمحراب والوعظ والإرشاد فقط، بل كان ــ إلى جانب ذلك – مصلحًا اجتماعيًّا، وموجهًا سياسيًّا، وزعيمًا مخلصًا للأمة، وبطلًا مناضلًا من أولي العزم من الرجال، مدافعًا عن قضايا الأمة، مهتمًّا بأمورها، متحرقًا لها ساهرًا على مصالحها، داعيًا بصيرًا بحالها، ساعيًا في إنقاذها من ورطتها، وإنهاضها من كبوتها، ولم يكن من الزعماء الذين لا يريدون من عملهم إلا الشهرة أو المنصب أو الجاه، ولم يتسابق قط مع الآخرين في العمل أو في الحركة إلا في الخير، ولا طمع قط في منصب أو مال أو وظيفة أو دنيا، إذ كانت الدنيا كلها – عنده – مزرعة للآخرة، ومعبرا إلى الحياة الأبدية، بل إنما كان من ذلك النوع الثالث المختار من الزعماء، الذين أشار إليهم بعض الدعاة بقوله:
” الزعماء ثلاثة، زعيم صنع نفسه، وزعيم صنعته الظروف وزعيم صنعه الله على عينه يحمل الراية، ويوقظ الأمة، ويحمل راية الإسلام، ويهتف بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحمل رسالة السماء إلى الأرض”.
إي والله ! لقد كان الشيخ الحسامي من النوع الأخير من الزعماء… فقد كان – بدون نزاع ـ من الزعماء الذين صنعهم الله على عينه، فقد ظل ـ طول حياته – يحمل راية الإسلام ويوقظ الأمة وينبهها من غفلتها، ويرشدها إلى ما فيه خيرها وفلاحها في دنياها وعقباها
بعض مواقفه الجريئة
كان الشيخ الحسامي -رحمه الله- جبل العزيمة الشامخ، وصاحب الصوت المؤثر الصداح بالحق، فما عرفناه إلا قويًّا في الحق وقويًّا على الباطل، ذليلًا على المؤمنين، عزيزًا على الأعداء، لا تزعزعه المحن، ولا تهده النكبات:
سد الطريق على الزمان
وقام في وجه الخطوب
ذلك الرجل الذي تألقت رجولته في زمن عزّ فيه الرجال، ورحم الله القائل: ” إن الرجل إذا صحت رجولته فإنه يستطيع أن يبني أمة بأكملها ” وهذه المقولة تصدق على الشيخ الحسامي تمامًا، فقد بنى ـ هذا الرجل ـ أمة بكاملها، فأحسن البناء، فقد أصلح بمواعظه أحوال مئات الآلاف من المسملين، وأنقذ الآلاف ـ بفضل من الله وتوفيقه – من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان، وخرّج أفواجًا من العلماء والدعاة من الجامعة وفروعها والمدارس الكثيرة التي أسسها.
يُعَدُّ الشيخ رجلَ المواقف الحاسمة، فقد نازل أبطال الفرق الضالة، وأصحاب الاتجاهات والعقائد الباطلة، وجابه الحكومة، وعارض خططها المعارضة للشريعة، فخرج من الحومة مكللا بتيجان الفوز والفتح والانتصار، فكانت: ” فضائله التي تكون شخصيته هي الجرأة في الحق، وعمله من غير خوف وصلابته فيما يعتقد من غير انحناء “.
إنه لم يلن قط في أمر يتصل بالعقيدة والشريعة، ولم يركع للأقوياء قط، والركوع للأقويا من أعظم البلايا التي منيت بها الإنسانية، وقد صدق فيما قاله المفكر المصري الشهير أحمد أمين عن ذلك: ” إن أكثر شرور الإنسانية في الشرق والغرب ترجع إلى التأله من جانب الأقوياء، والركوع والخضوع من جانب الضعفاء، ويزول ذلك كله لو آمن الجميع حقًّا أن لا إله إلا الله “.( فيض الخاطر )
فكان الشيخ ذا إيمان راسخ بالله، والتوكل عليه، والثقة في تأييده وعونه وتوفيقه، الثقة التي تسمو بصاحبها حتى يجتاز العقبات كلها، طائرًا بجناحين من الشجاعة والثبات، الثقة التي تجعل صاحبها يقول كلمة حق عند سلطان جائر، ولا يركع لجبروته، ولا يطمع في مغنمه، وهذا هو ـ في الحقيقة – سر جراءة الشيخ وجهره بالحق أنه لم يستفد من الحكومة قط، ولم يتنافس مع المتنافسين في الحصول على جاه أو منصب أو دنيا، فمن هنا.. تصدى لقرارات الحكومة إذا كانت معارضة للشريعة، وحياته مليئة بالمواقف الجريئة ضد الحكومة وأهل الفرق الباطلة، نذكر ـ فيما يلى – بعضًا منها:
– في السبعينيات من القرن الماضي، قامت الحكومة بحركة: ” تحديد النسل / التعقيم الإجباري”، وتعدت في تنفيذ المهمة الحدود، وساد الهرج والمرج في طول البلاد وعرضها، وكممت الأفواه، وخرست الألسنة، وخاف العلماء بطش الحكومة إذا نطقوا بالحق، هنالك قام الشيخ متصديًا متحديًا للحكومة، معارضا لقرارها – الجائر هذا ـ بكل قوة، ووضع هتافًا ضد هتاف الحكومة، فكانت الحكومة تهتف: الطفل اللاحق / القادم ليس الآن ولا طفل بعد الثاني أبدا “، ( اگلا بچہ ابہی نہیں، دوسرے کے بعد کبہی نہیں )،ولكن الشيخ كان يهتف بالعكس من ذلك قائلا: ” الطفل اللاحق / القادم الآن، وبعد الطفل الثاني عشر بين الفينة والأخرى “، ( اگلا بچہ ابہی ابہی، بارہ کے بعد کبہی کبہی )،وتلقى الناس هتاف الشيخ بالقبول العام، ورددوه، وأشاعوه على النطاق الأوسع، فجرى على كل لسان، وسارت به الركبان، وكانت الحكومة عارفة بمدى شعبية الشيخ، و – بالتالي – مدى تأثير هتاف الشيخ في الجماهير المسلمة بصفة خاصة، فألقته في السجن، ثم توسط وزير الداخلية الذي كان مسلمًا آنذاك، وقال للشيخ: الحكومة لا مانع لديها من إطلاق سراح الشيخ إذا تعهد ــ كتابيًّا ــ بأنه لا يتدخل في خطط الحكومة وقراراتها، فأجاب الشيخ: لو تعهدت الحكومة ـ بدورها – بأنها – أيضا – لا تتدخل في شؤون الدين وأحكامه، فأنا أيضا أتعهد بعدم التدخل في شؤون الحكومة، فاعتذر الوزير عن ذلك، فرفض الشيخ – أيضا – مطالبة الحكومة, وآثر البقاء في السجن، مع أن زوجته كانت مصابا بالمرض العضال، وتوفيت وهو في السجن، وبقي الشيخ في السجن نحو عشرة أشهر، ولم يقض هذه المدة مستريحًا، بل ظل يقوم بالدعوة وإصلاح أحوال السجناء، حتى تاب الكثير منهم، وأقلعوا عن الجرائم، وأسلم على يده بعض مسؤولي السجن الكبار، وكان يتعلم الدين منه إذا وجد في الوقت متسعًا فأحيا الشيخ – بذلك – سنة النبي يوسف بن يعقوب عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
– كانت الحكومة – في بعض السنوات الماضية – تعتقل الشباب المسلم، وتزج بهم في السجون دون ذنب اقترفوه، فغضب الشيخ وذهب على رأس وفد كبير مكون من قادة وزعماء الجماعات والمنظمات الإسلامية إلى كبير وزراء الولاية، وأبدى غضبه الشديد حيال ما تقوم به الحكومة من اعتقال عشوائي للشباب المسلم، وقال له في نهاية المقابلة: لقد آن الأوان لانقراض حكومتك، ولا يسوغ لك الآن هذا الكرسي.
– ذات مرة بدأت الشيعة الإساءة إلى مكانة الشيخين، فقال الشيخ لكبير الشرطة: لئن لم ينته أعداء الإسلام عن إساءتهم واعتدائهم على حرمة الشيخين لنعلن الجهاد ضدهم، ثم نظم حفلات في سائر أنحاء المدينة، يبين فيها مكانة الصحابة وفضائلهم وتضحياتهم التي قاموا بها في سبيل الدين.
المأثرة الكبرى للشيخ
كان نشاط الشيخ الحسامي أعظم من أن يحصر في نطاق، وقد ألمحنا فيما مضى من السطور إلى بعض مجالات نشاط الشيخ التي تصب كلها في مصلحة الإسلام والمسلمين، فقد سخر الشيخ جميع مواهبه وقدراته لدينه وأمته وبلاده وللبشرية جمعاء، ولكن مأثرته الكبرى عندنا أنه حدث انقلاب صالح عظيم بفضل جهوده، ووجدت بيئة دينية مكان بيئة لا دينية، وشهدت المنطقة صحوة إسلامية مباركة عمت جميع شرائح المجتمع وأطيافه، وكثر الإقبال على الدين وتعليمه والالتزام به، وأعفي الشباب اللحى، وتحجبت النساء، وحفظ في جامعته – الجامعة الإسلامية دار العلوم حيدرآباد – وفروعها وفي المدارس الأخرى بالولاية ــ آلاف من أبناء المسلمين القرآن الكريم، كما تخرج منها آلاف من العلماء والخطباء والوعاظ والدعاة، مما أدى إلى انتشار ظاهرة التدين، والقضاء على البدع والانحرافات إلى حد كبير، وانتشرت شبكة المدارس في القرى والأرياف والمديريات، يستفيد منها آلاف من أبناء وبنات المسلمين، ومن جامعته وحدها يتخرج كل عام عشرات من العلماء والمفتين والحفاظ، كما حلّت آلاف من القضايا من دارالقضاء الشرعي التي أسسها الشيخ، وأصدرت الدار ـ كذلك – آلافا من الشهادات باعتناق الإسلام للمسلمين الجدد.
وهناك ميزة أخرى تسمو بمكانة الشيخ بين معاصريه من العلماء والدعاة ـــ مع كامل الاعتراف بفضلهم وإنجازاتهم – وهي القيام بتبليغ رسالة الإسلام إلى أبناء الوطن – من غير المسلمين ـ ودعوتهم إلى الحق، فهناك آلاف من المواطنين الهنود دخلوا في رحاب الإسلام على أيدى الشيخ وتابوا من الشرك والكفر، وحسن إسلامهم، كفل الشيخ عددًا منهم، ورباهم، فأحسن تربيتهم، وكان منهم علماء ودعاة، نشروا العلم وقاموا بالدعوة إلى الله.
الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ حيدرآباد
ثم كانت خطوته الكبرى حينما أسس – سنة ١٩٧٦م – الجامعة الإسلامية دار العلوم / حیدر آباد، فكان تأسيسها انتصارًا عظيمًا وفتحًا مبينًا لأهل الحق والاعتدال والوسطية من العاملين في مجال العمل الإسلامي، وشهدت الحركة التعليمية في منطقة الجنوب حضورًا وازدهارًا بعد ما كانت تشكو من القحط العلمي والجدب الفكري نوعًا ما، والحقيقة التي لا يختلف فيها اثنان أن المنطقة تعيش الآن عصر ربيع العلم والمعرفة والحركة التعليمية من التسابق في إنشاء المدارس والكتاتيب، وإصدار المجلات والصحف ونشر الكتب والمؤلفات بعد تأسيس الجامعة، والفضل في كل ذلك يرجع – بعد الله ـ إلى جهود الشيخ الحسامي وإخوانه وغيرهم من المعنيين بالتعليم والتربية ورجال الفكر والدعوة.
هذا. ولا يكتمل الحديث عن الجامعة إذا لم نذكر الشيخ محمد رحيم الدين الأنصاري – رحمه الله – أمين عام الجامعة سابقًا، الذي كان جند مواهبه، وأفنى شبابه وبذل عمره كله لخدمة الجامعة، وكان الساعد الأيمن للشيخ الحسامي رحمه الله، فكان لجهود الشيخ الأنصاري الجليلة نصيب موفور في ترقية الجامعة والنهوض بها – في زمن قياسي – إلى مصاف المدارس والجامعات الإسلامية الشعبية الكبرى لا في الولاية فحسب، بل على مستوى البلاد كلها، رحمهما الله وجزاهما عن الأمة خير ما يجزي به عباده العاملين المخلصين.
(للمقال بقية)
(الأربعاء: ٨ من جمادى الآخرة ١٤٤٦ھ = ١١ من ديسمبر ٢٠٢٤م)
موضوعات ذات صلة:
الشيخ محمد حمید الدین عاقل الحسامي (١)