يشكّل الاكتفاء الذاتي في القطاعات الاستراتيجية، مثل التصنيع الحربي والطاقة والأدوية، عنصرًا حاسمًا في تعزيز الأمن القومي والاستقرار الاقتصادي لأي دولة.
وتُعد القدرة على إنتاج المعدات العسكرية، وتوفير الطاقة محليًا، وتأمين الدواء دون الاعتماد المفرط على الخارج، مؤشرات رئيسية على قوة الدولة واستقلاليتها في مواجهة الأزمات.
في هذا السياق، تبرز تجارب كل من اليابان وماليزيا وإندونيسيا كنماذج متفاوتة في مستوى التقدم والتحديات، حيث تتصدر اليابان المشهد بتفوق تقني وصناعي ملحوظ.
بينما تسعى ماليزيا إلى تعزيز قدراتها عبر سياسات طموحة وشراكات استراتيجية، في حين تواصل إندونيسيا بناء بنيتها التحتية وتحقيق تطور تدريجي في هذه المجالات الحيوية.
يستعرض هذا التقرير مقارنة شاملة بين الدول الثلاث من حيث التصنيع الحربي، التدريب العسكري، ومستوى الاكتفاء الذاتي في مجالات الدفاع والطاقة والأدوية، بهدف تسليط الضوء على الفوارق التنموية والاستراتيجيات المتبعة لتعزيز الاستقلالية الوطنية.
التصنيع الحربي
اليابان تتصدر بوضوح في مجال التصنيع الحربي بين الدول الثلاث. لديها قاعدة صناعية عسكرية متقدمة جداً، تنتج معدات متطورة مثل الدبابات، الطائرات، السفن الحربية، وأنظمة الدفاع الصاروخي، معتمدة بشكل كبير على التكنولوجيا المحلية والخبرة الصناعية المتراكمة. رغم القيود الدستورية على التصدير والاستخدام الخارجي، إلا أن اليابان تحقق اكتفاءً ذاتياً شبه كامل في التسليح التقليدي وتدير برامج تطويرية متقدمة.
ماليزيا لديها صناعة دفاعية متوسطة الحجم، تركز على تجميع وصيانة المعدات العسكرية، مثل العربات المدرعة والزوارق الحربية، مع بعض الإنتاج المحلي المحدود.
تعتمد بشكل كبير على استيراد التكنولوجيا والمعدات من دول مثل بريطانيا وفرنسا وكوريا الجنوبية، وتسعى لتعزيز قدراتها الذاتية عبر شراكات دولية وبرامج نقل التكنولوجيا، لكنها لم تصل بعد إلى الاكتفاء الذاتي الكامل.
إندونيسيا تطور صناعات دفاعية محلية في مجالات مثل السفن الحربية الخفيفة، الطائرات التدريبية، وبعض الأسلحة الخفيفة، لكنها لا تزال تعتمد بشكل كبير على الاستيراد في المعدات المتقدمة والتكنولوجيا العسكرية. تركز الحكومة على تعزيز التصنيع المحلي ضمن خطط الاكتفاء الذاتي، لكن القدرات الحالية تظل محدودة مقارنة باليابان وماليزيا.
التدريب الحربي
اليابان تمتلك منظومة تدريب عسكري متقدمة، تعتمد على التكنولوجيا الحديثة والمحاكاة، وتستفيد من التعاون مع الولايات المتحدة في برامج التدريب والتطوير.
ماليزيا تركز على التدريب العسكري المشترك مع دول كبرى مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، إلى جانب تطوير برامج تدريب محلية، لكنها تعتمد على الدعم الخارجي في بعض التخصصات المتقدمة.
إندونيسيا تطور برامج تدريب عسكري محلية، وتشارك في تدريبات إقليمية ودولية، إلا أن البنية التحتية التدريبية والتقنيات المستخدمة أقل تطوراً من اليابان وماليزيا.
الاكتفاء الذاتي
اليابان تحقق اكتفاءً ذاتياً شبه كامل في التسليح التقليدي والتدريب العسكري، مع تطور كبير في البحث والتطوير.
ماليزيا تحقق اكتفاءً جزئياً في بعض القطاعات الدفاعية، لكنها تظل معتمدة على الاستيراد في التسليح المتقدم والتكنولوجيا.
إندونيسيا تركز على تعزيز الاكتفاء الذاتي في التصنيع العسكري ضمن خططها الوطنية، لكن الاعتماد على الخارج لا يزال كبيراً، خاصة في المعدات المتطورة والتقنيات الحديثة.
بشكل عام، اليابان تتفوق بوضوح في جميع الجوانب، تليها ماليزيا، ثم إندونيسيا التي لا تزال في طور بناء القدرات الذاتية في القطاع الدفاعي.
الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة
تعاني اليابان من ضعف الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة بسبب قلة الموارد الطبيعية، إذ تستورد أكثر من 90% من احتياجاتها. بعد كارثة فوكوشيما، تراجعت مساهمة الطاقة النووية، مما زاد الاعتماد على الوقود الأحفوري المستورد. تسعى اليابان حالياً لتعزيز الطاقات المتجددة وتحسين الكفاءة الطاقية.
تتمتع إندونيسيا بموارد طاقة وفيرة، مثل الفحم والغاز الطبيعي والنفط، مما يمنحها مستوى جيدًا من الاكتفاء الذاتي في الطاقة. كما تستثمر في تطوير مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة المائية والحرارية الأرضية. رغم ذلك، تواجه تحديات في التوزيع والبنية التحتية، وتسعى لتحقيق توازن بين التصدير وتلبية الطلب المحلي المتزايد.
افتتحت إندونيسيا مشروعين بحريين للنفط والغاز في بحر ناتونا الجنوبي، بتكلفة 600 مليون دولار، بإدارة شركة “ميدكو إي آند بي ناتونا” الإندونيسية. يُتوقع أن ينتجا 20 ألف برميل نفط يوميًا، مما يعزز جهود البلاد لتحقيق الاكتفاء الذاتي في الطاقة وتقليل الاعتماد على الواردات.
تتمتع ماليزيا بمستوى جيد من الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة، مدعومًا بمواردها من النفط والغاز الطبيعي. تسعى الحكومة إلى رفع نسبة الاكتفاء الذاتي من 48% إلى 72% بحلول عام 2040، من خلال تعزيز مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والكتلة الحيوية. كما تهدف إلى أن تشكل الطاقة المتجددة 31% من مزيج الطاقة بحلول عام 2035 و70% بحلول عام 2050، مما يقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري ويعزز أمن الطاقة الوطني.
الاكتفاء الذاتي في مجال الأدوية
تعاني اليابان من ضعف الاكتفاء الذاتي في مجال الأدوية، حيث تعتمد بشكل كبير على استيراد المواد الخام الفعالة (APIs)، خاصة من الصين، مما يشكل تحديًا لأمنها الصحي. استجابة لذلك، بدأت الحكومة بدعم استئناف إنتاج مكونات البنسلين داخليًا بعد توقف دام 30 عامًا، بهدف تعزيز الاستقلالية الدوائية بحلول عام 2030 .
تسعى ماليزيا لتعزيز الاكتفاء الذاتي في صناعة الأدوية عبر سياسات تشجع الإنتاج المحلي وتطوير سلاسل القيمة، بما في ذلك تصنيع المواد الفعالة واللقاحات. رغم الاعتماد الكبير على الاستيراد، تدعم الحكومة مبادرات لتوطين الصناعة، مثل خطة “NIMP 2030″، وتواجه تحديات تنظيمية وبنية تحتية. تُعد هذه الجهود خطوة استراتيجية نحو تقليل الاعتماد على الخارج وتعزيز الأمن الصحي الوطني.
تسعى إندونيسيا لتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الأدوية عبر تقليل اعتمادها على استيراد المواد الخام، الذي يبلغ حاليًا نحو 90%. تعمل الحكومة على تعزيز الإنتاج المحلي من خلال دعم البحث والتطوير، وتقديم حوافز مالية، وتشجيع استخدام المواد الخام الطبيعية المحلية. تهدف هذه الجهود إلى تحسين الأمن الصحي الوطني وتقليل التبعية للخارج، رغم التحديات المتعلقة بالبنية التحتية والتنظيم .
حيث سلّط تليفزيون “بريكس” الضوء على جهود إندونيسيا لتحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج الأدوية، .
في النهاية يتّضح من المقارنة بين اليابان وماليزيا وإندونيسيا أن مسار تحقيق الاكتفاء الذاتي في القطاعات الحيوية يختلف من دولة إلى أخرى بحسب الموارد المتاحة، والتوجهات السياسية، ومستوى التطور الصناعي والتقني.
فقد استطاعت اليابان أن ترسّخ مكانتها كقوة صناعية وعسكرية متقدمة، رغم التحديات المتعلقة بالطاقة والاعتماد على الخارج في قطاع الأدوية.
أما ماليزيا، فهي تمضي بخطى مدروسة نحو تعزيز قدراتها الذاتية، مدعومة بسياسات طموحة تهدف إلى تقليل الاعتماد على الاستيراد، خصوصاً في مجالي الطاقة والأدوية.
وفي المقابل، تمثّل التجربة الإندونيسية نموذجًا لدولة ناشئة تسعى جاهدة لبناء قاعدة صناعية محلية وتعزيز أمنها الاستراتيجي، رغم ما تواجهه من تحديات في البنية التحتية والاعتماد الكبير على الخارج.
في المجمل، يُظهر هذا التحليل أن تحقيق الاكتفاء الذاتي يتطلب رؤية طويلة الأمد، واستثمارًا مستمرًا في البحث والتطوير، وتعزيز الشراكات الدولية دون التفريط في بناء القدرات الوطنية.