“سعيد بن جُـبَـير” ..أعلمُ التابعين وأميرُ الثائرين
الحبشيُّ الذي عَـلّم العرب والعجم..
والرحّالةُ الذي وهب حياته لله، ولتعليم الناس أصول دينهم
والإمامُ الذي مهّد الطريق لظهور المذاهب الفقهية..
والثائرُ الحقُ الذي قال: (لا) لطاغية العصور والتاريخ والأُمّة، الحجاج بن يوسف الثقفي
والرجل الذي كان يختم القرآن كل ليلتين، ويبكي تأثّرًا، حتى أُصيب بالعمش..
إنه الحافظ المُقريء المفسّر العابد الزاهد الشهيد “سعيد بن جُبَير” الذي قال فيه الإمام أحمد بن حنبل: ابن جُـبـير هو علّامة الزمان.
سعيد بن جُـبَـير
سعيد بن جُبير بن هشام الأسدي (46-95 هـ) تابعي حبشي الأصل، عربي الولاء والانتماء، والمَولِد والنشأة
كان حاد الذكاء والفراسة، لا يخشى في الله لومة لائم، يتمتع بجسم متناسق، متدفق الصحة والحيوية والنشاط..
أسود اللون (زنجي)، أفطس الأنف، مُفَلْفَلُ الشعر (مجعَّد شديدُ الجَعْـوَدة)
ولكنه يعلم أن الإسلام أسقط الألوان، وساوَى بين الجميع،
وأدرك “سعيد بن جبير” قيمة وروعة الحديث النبوي الذي رواه مسلم عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – (إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)
وأن العلم وحده هو الذي يرفعه، وأن التقوى وحدها هي التي تكرمه، وتبلغه الجنة، لذلك قالوا: (تعلّموا العلم، فإن كنتم سادةً فُقْتُمْ، وإن كنتم وسطًا سُدْتُم، وإن كنْتُم سوقةً عِشْتُم)
تلميذ “حَبر الأمة”
أخذ سعيد بن جبير العلم عن طائفة من كبار الصحابة، من أمثال أبي سعيد الخدري، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن عمر، رضي اللَّه عنهم أجمعين، لكن يبقى عبد الله بن عباس بن عبدالمطلب – حَـبر هذه الأمة – هو المعلّم الأول له.
لازم سعيد بن جبير، عبد الله بن عباس، لزوم الظل لصاحبه، فأخذ عنه القرآن وتفسيره، وتلقى عنه القراءات القرآنية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ بها، وتفقّه على يديه في الدين، وتعلّم منه علم التأويل، حتى أصبح من المكانة ما جعل بعض معاصريه يقول فيه: مات سعيد بن جبير، وما على ظهر الأرض أحدٌ من أهل زمانه إلا وهو محتاج إلى علمه.
أعلم التابعين
ظل “سعيد بن جبير” ينهل من بحور العلم، حتى أصبح علّامة الزمان، وفقيه الأمة،
وما كان على ظهر الأرض أحدٌ أعلم منه،
فلما اكتمل له ما أراد من العلم، اتخذ الكوفة له دارًا ومقامًا، وأصبح معلمها وإمامها
فتوافد الناس من كل بلدان العالم الإسلامي، على الكوفة، لينهلوا من بحور عِلم “سعيد بن جبير” ويغترفوا من فضائله وورعه
كان “سعيد بن جبير” وعاء من أوعية العلم، فعن خصيف قال: كان أعلمهم بالقرآن مجاهد، وأعلمهم بالحج عطاء، وأعلمهم بالحلال والحرام طاووس، وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب، وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير.
وكان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول: أليس فيكم ابن أم الدهماء، يعني سعيد بن جبير.
وكان يشد رحاله إلى بيت الله الحرام كل عام مرتين، مرةً في رجب (عُمرة) ، وأخرى في ذي القعدة (حج)
مستجاب الدعوة
كان عابدًا قوامًا، فعن أصبغ بن زيد قال: كان لـ سعيد بن جبير، ديك، يقوم من الليل بصياحه، فلم يصِح هذا الديك ليلة من الليالي حتى أصبح، فلم يصلِّ “سعيد بن جبير” تلك الليلة، فدخل على الديك وقال: ما لك قطع الله صوتك، فما سُمع له صوت بعد ذلك .. فقالت له أمه: يا بُني لا تدعُ على شيءٍ بعدها.
الطاغية الحجاج الثقفي
كان الحجاج بن يوسف الثقفي (40 – 95 هـ = 660 – 714 م) واليًا على العراق من قِبل عبد الملك بن مروان، وكان معروفًا بالظلم وسفك الدماء، والتعدّي على حرمات الله بأدنى شبهة، وأجمع علماء الإسلام والمؤرخون، أنه كان من أشد الناس ظلما وأسرعهم للدم الحرام سفكا، ولم يحفظ حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، ولا وصيته في أهل العلم والفضل والصلاح من أتباع أصحابه، وكان يجاهر ببغضه لـ “علي بن أبي طالب” رضي الله عنه وآل بيته، إرضاءً لبني أُميّة.
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت للحجاج: (أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا، فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ). “البداية والنهاية” (9/153)
والمبير: المُهلك ، الذي يسرف في إهلاك الناس .
وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى كفره، فعن قتادة قال: قيل لـ سعيد بن جبير: خرجت على الحجاج ؟ قال: إني والله ما خرجت عليه حتى كفر .
وقال الأعمش: اختلفوا في الحجاج فسألوا مجاهدا فقال: تسألون عن الشيخ الكافر. “البداية والنهاية” (9 /156- 157) .
وقال الشعبي: الحجاج مؤمن بالجبت والطاغوت، كافر بالله العظيم .
وقال القاسم بن مخيمرة: كان الحجاج ينقض عُرى الإسلام .
وعن عاصم بن أبي النجود قال: ما بقيت لله تعالى حُرمة إلا وقد انتهكها الحجاج . “تاريخ دمشق” (12 / 185-188) .
الثائرُ الحق
لقد وصل الطاغية الحجاج بن يوسف الثقفي إلى القمة، وأصبح أشهر من الخليفة، بعد أن قَتَلَ عبد الله بن الزبير، وقَضَى على حركته، وأخضعَ العراقَ لسلطان بني أمية، وأخمد نيران الثورات القائمة هنا وهناك، وأعمل السيف في رقاب العباد، وأشاع الرعب في أرجاء البلاد، حتى امتلأت القلوبُ رهبةً منه، وخشيةً من بطشه
وكان سعيد بن جبير، الذي لا يخشى في الله لومة لائم، ينهى الحجاج عن الظلم والبطش، ولكن الطاغية الحجاج، كان يسخر منه، ومن نصائحه، بعد أن حاول كثيرًا أن يغريه بالمال والمناصب، ولكنه فشل أمام هذا العملاق علّامة الزمان.
فقد روى المؤرخون أن سعيد بن جبير كان ينصح الناس بمخالفة الحجاج، وبالوقوف في وجهه، حتى تفاعل بعض الناس معه، وضاق الحجاج ذرعا بتصرفات سعيد ، وقرر قتله، فنصحه الناس بالخروج من العراق والهجرة سرا إلى مكة.
الهروب من الطاغية
نجح “سعيد بن جبير” بواسطة تلاميذه المخلصين، في الخروج من أرض العراق، حتى وصل إلى قرية صغيرة مِن أراضي مكة، وعاش فيها 10 سنوات كاملة، متخفيًا، لا يعرفه أحد
ولكن شاءت الأقدار أن يأتي الطاغية الأموي “خالد بن عبد الله القسري” واليًا على مكة، وكان معروفا بفُجره، وسُوء سيرته، فتوجّس أصحاب “سعيد بن جبير” خِيفةً منه، وتوقعوا الشرَّ على يديه، فجاء بعضهم إلى سعيد، وقال له: إنّ هذا الرجل قدِمَ مكة، وإنا واللهِ لا نأمنه عليك، فاستجبْ لطلبنا، واخرجْ من هذا البلد، فقال: (واللهِ لقد فررتُ حتى صرتُ أستحي من الله، ولقد عزمتُ على أن أبقى في مكاني هذا، وليفعْل اللهُ بي ما يشاء)
واستطاع هذا الوالي أن يصل لمكان “سعيد بن جبير” وأرسل إليه سريّة من جنوده، وأمرهم أن يسوقوه مقيـّـدًا إلى الحجاج في بلاد العراق، مباشرةً
المشهد التاريخي
لما صار “سعيد بن جبير” عند “الحجاج”، نظر إليه في حقدٍ ، وقال: ما اسمك؟
قال: سعيد بن جبير،
قال الحجاج: بل شقي بن كُسَير،
قال: بل كانت أُمِّي أعلمَ باسمي منك،
قال الحجاج: فما تقول فيَّ؟
قال: أنت أعلم بنفسك،
قال: بل أريد علمك أنت،
قال سعيد: إني لأَعْلَمُ أنك مخالف لكتاب الله تعالى، تُقدِم على أمور تريد منها الهيبة، وهي تقحمك الهلَكَةَ، وتدفعك إلى النار دفعًا
قال: أمَا واللهِ لأقتلنك،
قال: إذن تفسد عليَّ دنياي، وأفسد عليك آخرتك،
قال: اختر لنفسك أي قتلة شئت،
قال: بل اخترها أنت لنفسك يا حجّاج، فو الله ما تقتلني قتلة إلا وقتَلك اللهُ مثلها في الآخرة،
قال: أتريد أن أعفوَ عنك،
قال: إن كان العفو فمن الله تعالى، أمّا أنت فلا أريده منك،
فاغتاظ الحجاج، وقال: السيف والنطع يا غلام،
فتبَسَّم سعيد، فقال له الحجاج: وما تبسُّمك؟
قال: عجبتُ من جرأتك على الله، وحلم الله عليك،
قال الحجاج: اقتله يا غلام، فاستقبل سعيد القِـبلة وقال:
﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
(سورة الأنعام الآية: 79)
قال: حرِّفوه عن القبلة، فقال:
﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [سورة البقرة الآية: 115]
قال: كبُّوه على الأرض، فقال:
﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [سورة طه الآية: 55]
قال الحجاج: اذبحوه، فما رأيت رجلاً أَدْعَى منه لآيات القرآن الكريم، فرفع “سعيد بن جبير” كفَّيه، وقال: اللهم لا تسلِّط الحجاجَ على أحدٍ بعدي.
هلاك الحجاج
لم يمضِ على مصرع “سعيد بن جبير” غير 15 يومًا، حتى أصاب الطاغية الحجاج، مرضٌ مجهول، واشتدت عليه وطأةُ المرض، فكان يغفو ساعةً ويفيقُ أخرى، فإذا غفا غفوة، استيقظ مذعورًا وهو يصيح: هذا سعيد بن جبير آخذٌ بخناقي، هذا سعيد بن جبير يقول لي: فيمَ قتلتني؟ ثم يبكي، ويقول: ما لي ولـ سعيد بن جبير، رُدّوا عني سعيد بن جبير، وظل هكذا حتى هلك
فلما قضى نحبه، ووُرِيَ في ترابه، رآه بعضهم في الحلم، فقال له: ما فعل الله بك فيمن قتلتهم يا حجاج؟ قال: قتلني اللهُ بكل امريءٍ قتلة واحدة، وقتلني بـ سعيد بن جبير سبعين قتلة
وروى الترمذي في سننه (2220) عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ: “أَحْصَوْا مَا قَتَلَ الْحَجَّاجُ صَبْرًا فَبَلَغَ مِائَةَ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ قَتِيلٍ”.
وقال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمةٍ بطغاتها، وجاءت أمة الإسلام بالحجاج بن يوسف الثقفي، لرجحتهم جميعا، وما كان يصلح لدنيا ولا لآخرة. “تاريخ دمشق” (12/185).
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عُديّ بن أرطاة : بلغني أنك تستنّ بسنن الحجاج، فلا تستن بسننه، فإنه كان يصلي الصلاة لغير وقتها، ويأخذ الزكاة من غير حقها، وكان لما سِوَى ذلك أضيع ” . “تاريخ دمشق” (12 / 187) .
وقال الإمام شمس الدين الذهبي، رحمه الله :
” كان الحجاجُ ظلومًا جبارًا ناصبيا خبيثا سفّاكًا للدماء ” .
وقد فرح المسلمون بموت الحجاج بن يوسف الثقفي، ونقلت لنا كتب التاريخ سجود الحسن البصري وعمر بن عبدالعزيز شكرًا لله على موته، ولما أُخبر إبراهيم النخعي بموته بكى من الفرح، ولما بُشِّر طاووس بموته فرحَ وتلا قول الله تعالى:
{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 45 الأنعام
ولا يدافع عن “الحجاج” أو يُبرّر له ، إلا منافق
القوة تحمي الحق وتمهّد طريق النصر
ظل “سعيد بن جُـبير” مُتخفيًّا من الحجاج بن يوسف الثقفي، 10 سنوات كاملة، لأنه يعلم أن الطغاة في كل زمانٍ ومكانٍ، لا دين لهم، ولا مروءة ، ولم يضع نفسه أمام سيوف رجال الحجاج، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: لَا تَتَمَنَّوا لِقَاءَ الْعَدُوِّ.
عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ ؟ قَالَ: يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاءِ لِمَا لا يُطِيقُ)
(أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد، وصححه الألباني)
رحم الله “سعيد بن جُـبـير” الثائر الحق، الذي قال (لا) للطغاة والظلم
والحبشي الفقيهُ العلّامة الذي ستظل قصته وما فيها من عِبَر، تُزيّن جدران دولة الإسلام، حتى يرث اللهُ الأرض ومَن عليها…
—————————————–
المصدر: موسوعة (شموسٌ خلفَ غيومِ التأريخ – يسري الخطيب)
مصادر الموسوعة:
– سيرة التابعين الأجلاء – د. محمد راتب النابلسي
– موقع “قصة الإسلام” د. راغب السرجاني
– وفيات الأعيان – ابن خلكان
– سير أعلام النبلاء – الذهبي
– تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام – شمس الدين الذهبي
– البداية والنهاية (الجزء التاسع) ابن كثير
– موقع “الإسلام سؤال وجواب” – محمد صالح المنجد
– موقع “إسلام ويب”
– موسوعة “تاريخ الإسلام”
– تاريخ دمشق – ابن عساكر
– تاريخ بغداد – الخطيب البغدادي
– شذرات الذهب في أخبار من ذهب – ابن العماد الحنبلي