ثمانون عامًا مضت على استقلال إندونيسيا، لكن التاريخ لا يزال حيًا في قلوب الأحرار.، لم يكن استقلالها هدية من مستعمر ولا ثمرة مساومة، بل كان صرخة دم وشهادة نار أطلقها شعب اختار القتال بدل أن يمد يده صاغرًا لبنادق الاحتلال.
في التاسع من نوفمبر 1945 حاولت بريطانيا أن تطفئ جذوة الثورة بإنذار أخير سلّموا أسلحتكم وخذوا سلامًا زائفًا.، لكن الجواب كان كالبرق: ” لا سلام مع السلاسل” فاندلعت معركة “سورابايا” في اليوم التالي لتصير جرحًا مجيدًا ورمزا للتحرر والحرية في ذاكرة العالم.
معركةٌ لا تُنسى..دماء تتلى عبر الزمن
بدأت المعركة صباح العاشر من نوفمبر، عندما شُنّت بريطانيا غارات برية وبحرية وجوية على المدينة. رغم النقص في الأسلحة، قاوم أهل سورابايا بكل ما أوتوا من قوة، حتى بلغ عدد الضحايا من جهة الشعب حوالي 20 ألف قتيل، وفرّ نحو 150 ألف مدني من المدينة، بينما تكبد البريطانيون أكثر من 1,600 خسائر . سمّتها الذاكرة الجماعية لديهم “جحيم الأرض”
المقاومة الشعبية ومعنى الكرامة
إعلان الاستقلال في السابع عشر من أغسطس 1945 كان لحظة فرح مختلط بالدموع، لكن الاستعمار لم يرضخ.، كانت هولندا تريد العودة وبريطانيا تحاول إعادة تثبيت نفوذ الحلفاء في آسيا، لكن شعب إندونيسيا الذي عانى قرونًا من الاستغلال الهولندي لم يعد يقبل أن يعيش عبدًا مرة أخرى فكان شعار المرحلة إما أن نعيش أحرارًا أو نموت.
مدينة سورابايا تحولت إلى بركان ثائر لم يكن فيها فارق بين مقاتل ومدني، النساء كن يحملن الرسائل والسلاح، والأطفال كانوا عيونًا للثوار، والشيوخ يرفعون الراية في الشوارع، الجميع كان في قلب المعركة حتى أن سقوط الجنرال البريطاني مالابي أشعل الغضب الشعبي أكثر ليصبح موته رمزًا على أن المستعمر مهما كان قويًا يمكن أن يهزم.
المعركة في بعدها الإنساني والسياسي
معركة سورابايا.، لم تكن مجرد صراع من محتل واصحاب أرض، بل اختبارًا عالميًا للعدالة بعد الحرب العالمية الثانية، فبينما كانت أوروبا تحتفل بهزيمة النازية، كانت بريطانيا تعيد إنتاج استعمارها في آسيا.، أرادت أن تثبت أنها المنتصر الأكبر وأن شعوب الجنوب ليست سوى أدوات، لكن الرد الإندونيسي كان مفاجئًا حتى للغرب الذي لم يتصور أن مدينة شبه عزلاء تستطيع أن تقاوم جيشًا مجهزًا بالدبابات والطائرات.
استمرت المعركة أسابيع سالت فيها الدماء حتى تحولت شوارع سورابايا إلى أنهار حمراء، سقط عشرون ألفًا من المدنيين والمقاتلين في أقل من شهر، لكن هذه التضحيات هي التي أرغمت بريطانيا على مراجعة حساباتها، وأدت لاحقًا إلى اعتراف دولي باستقلال إندونيسيا.، فإن لم تنتصر سورابايا عسكريًا فقد انتصرت أخلاقيًا وسياسيًا.
الإرث الوطني والدروس للأجيال
منذ ذلك اليوم أعلن الرئيس سوكارنو، العاشر من نوفمبر يومًا وطنيًا للأبطال، لأنه أراد أن يرسخ في وجدان الأمة درسًا خالدًا أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع وأن الشهداء هم الذين يكتبون مستقبل الأوطان بدمائهم لا بخطاباتهم واليوم بعد ثمانين عامًا لا تزال إندونيسيا تتذكر هذا اليوم بمراسم رسمية وزيارات للقبور الوطنية وأناشيد في المدارس لكن الأهم أنها تتذكره بوعي سياسي يربط الاستقلال بالتنمية ويضع التضحية في قلب المشروع الوطني.
العبرة لنا اليوم
معركة سورابايا لم تكن مجرد مواجهة بين محتل واصحاب ارض، بل رسالة عالمية ضد كل احتلال وضد كل قوة تريد أن تفرض الاستسلام تحت مسمى السلام، إننا في عالم اليوم نشهد صورًا جديدة للاستعمار قد لا تأتي في شكل جيوش ولكنها تأتي في شكل تحكم اقتصادي أو تلاعب سياسي أو ابتزاز عسكري، والدروس الإندونيسية تؤكد أن الشعوب لا تموت ما دامت قادرة على التمسك بحقها في الكرامة.
إن ذكرى مرور ثمانين عامًا على استقلال إندونيسيا هي نداء لنا جميعًا أن لا نركع أمام قوى الهيمنة وأن نفهم أن الحرية لا تُشترى ولا تُستورد بل تُصنع بالدم والتضحيات.
رغم الهزيمة العسكرية، انتصرت سورابايا معنويًا. لقد أثبتت للعالم أن الاستقلال لم يكن مجرد صرخة من نخبة، بل مشروع شعب بأكمله . إثر ذلك انسحبت القوات البريطانية من الإقليم في نوفمبر 1946 .
سورابايا وغزة خيط واحد من التاريخ
حين نستعيد معركة سورابايا.، ندرك أن روح المقاومة لا تموت فكما رفض الإندونيسيون في 1945 تسليم أسلحتهم لبريطانيا، رفض الفلسطينيون اليوم الانصياع لشروط إسرائيل التي تريد تجريدهم من سلاحهم تحت مسمى السلام، بينما الحقيقة أن السلام العادل لا يُصنع إلا بالحرية الكاملة، لذلك فإن المقاومة في فلسطين تسير على النهج ذاته نهج العزة والكرامة والتمسك بالحق ولو أمام قوة عسكرية طاغية.
العبرة من عمق التاريخ
تخبرنا ملاحم سورابايا أنّ الحرية لا تُنال إلا بالثبات والتضحية. هكذا، رغم قسوة المعركة، شكّل رفض الاستسلام رسالة واضحة: الشعب سيقاتل من أجل سيادته مهما كانت التكلفة.