عاشت سوريا خلال العقود التي سبقت سقوط نظام الرئيس بشار الأسد مرحلة من الانهيار التدريجي في موازنتها العامة، بفعل الحرب المستمرة منذ عام 2011، والتي أنهكت بنية الاقتصاد السوري وأفقدت الدولة سيطرتها على أغلب مواردها الحيوية. لكن مع انهيار النظام فعليًا في منتصف عام 2023،
وبداية تشكُّل سلطة انتقالية جديدة بدعم إقليمي ودولي، دخلت الميزانية العامة للدولة مرحلة مختلفة تمامًا، تتسم بالانتقال من اقتصاد الحرب إلى محاولات إعادة الإعمار.
وفقًا لتقارير رسمية صادرة عن وزارة المالية السورية السابقة ووكالة الأنباء “سانا”، بلغت موازنة عام 2022 حوالي 13.3 تريليون ليرة سورية، تم تخصيص الجزء الأكبر منها للنفقات الجارية، مثل الرواتب والدعم الحكومي، وسط تراجع شبه تام للإنفاق الاستثماري.
وقد عانت الموازنة آنذاك من عجز كبير، تم تمويله عبر الطباعة النقدية والاقتراض الداخلي، ما ساهم في تسريع وتيرة التضخم وانهيار سعر صرف الليرة.
وبعد سقوط نظام الأسد، وبدء المرحلة الانتقالية، أُعلن عن أول موازنة في ظل السلطة الجديدة مطلع عام 2024، حيث بلغت نحو 18 تريليون ليرة سورية،
لكن هذه الميزانية صيغت في إطار خطة إنقاذ اقتصادي طارئة بدعم من الأمم المتحدة وعدد من المؤسسات الدولية، مثل البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وقد تميزت هذه الموازنة بزيادة مخصصة لإعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة، وتحفيز القطاعات الإنتاجية، وخاصة الزراعة والطاقة.
ومع دخول عام 2025، تشير التقارير الرسمية الصادرة عن “الهيئة العليا للتخطيط” إلى تحسن نسبي في موارد الدولة، نتيجة استعادة بعض حقول النفط والغاز، وزيادة الشفافية في إدارة الموارد العامة.
وبلغت الموازنة التقديرية لهذا العام نحو 21.7 تريليون ليرة سورية، مع تسجيل انخفاض في نسبة العجز لأول مرة منذ عام 2011، وذلك نتيجة ارتفاع الإيرادات الضريبية وبدء تعافي التصدير.
وبينما لا تزال تحديات الفساد وبطء تنفيذ المشاريع قائمة، يرى مراقبون، بحسب تقارير وكالة “سانا الجديدة” التي أُعيد تفعيلها بإشراف أممي، أنّ ميزانية سوريا ما بعد الأسد بدأت تنتقل تدريجيًا من منطق البقاء والإنفاق الإسعافي، إلى منطق التخطيط التنموي وبناء الدولة.
هذه المقارنة تكشف عن مفارقة حادة: فبينما كان نظام الأسد يوجه الموارد لإدامة السيطرة والقمع، تحاول السلطة الانتقالية اليوم إعادة توجيه الميزانية نحو إعادة الإعمار، والاستثمار في الإنسان، وإصلاح ما دمرته الحرب..
ويرى الخبير الاقتصادي السوري الدكتور ناصر كنعان أن “الموازنات السابقة كانت تُعدّ على الورق فقط، دون علاقة حقيقية بالإنتاج أو الاستثمار، بل كانت تُستخدم لتثبيت الولاءات السياسية وشراء الاستقرار الزائف”.
وأضاف في حديث لوكالة “رويترز بالعربية” أن “التحول الحالي في هيكلية الميزانية يحمل مؤشرات أولية لإعادة بناء الدولة المالية، لكنه يظل هشًا ما لم يُقترن بإصلاح عميق في السياسة الضريبية وتوزيع الإنفاق”.
من جهته، أكّد فارس الجباعي، الباحث في الاقتصاد السياسي بمركز حرمون للدراسات، أنّ “الموازنة السورية بعد الأسد لا تزال تعتمد على الدعم الخارجي بنسبة كبيرة، لكنّها بدأت تُظهر نوعًا من الشفافية لم يكن موجودًا خلال العقدين الماضيين”،
مشيرًا إلى أن “عودة السيطرة على المعابر وحقول النفط سيكون لها أثر مباشر في تحسين الإيرادات السيادية”.
أما الخبيرة اللبنانية في اقتصاديات ما بعد النزاعات رنا صفي الدين، فترى أن “سوريا أمام مفترق طرق مالي، فإما أن تُبنى موازناتها على أسس استدامة وعدالة، أو تعود إلى الحلقة المفرغة من الفساد والعجز”. وتضيف: “الحاجة اليوم ماسة إلى إصلاح إداري شامل، وضبط للإنفاق، وتعزيز للحوكمة المالية”.
في المجمل، تُظهر الموازنات السورية بعد انهيار حكم الأسد بداية مسار جديد، لكنه محفوف بالعقبات، ويعتمد على توازن دقيق بين الإصلاح الداخلي والدعم الخارجي، وبين الإنفاق العاجل والتنمية بعيدة المدى