بعد شهور من الحرب والنزوح والدمار، بدأت الحياة تدب من جديد في «سوق أم درمان» العريقة، أحد أبرز معالم العاصمة السودانية. فقد عاد الباعة إلى مواقعهم، وامتلأت الأزقة القديمة بخطى المتسوقين، رغم الصعوبات التي لا تزال تخيم على تفاصيل الحياة اليومية، وعلى رأسها الغلاء، والفقر، وندرة السيولة.
وسط السوق، يجلس حمد الأمين، البالغ من العمر 72 عاماً، على بسطته التي غاب عنها لعامين بسبب الحرب. عاد إلى مهنته التي امتهنها منذ عام 1976، كأن شيئاً لم يكن. يقول لـ«الشرق الأوسط»: “هذه حياتي، لا أعرف غيرها. الزبائن هنا هم إخوتي، بعضهم لا يملك شيئاً، لكنني أقدم له الخضراوات على الحساب أو بالمجان”.
ورغم عودة الحركة التجارية، فإن الأزمة الاقتصادية تفرض نفسها بقوة، إذ سجلت أسعار اللحوم والخضراوات ارتفاعاً كبيراً. ويقول فخر الدين محمد، أحد تجار اللحوم، إن سعر كيلو لحم الضأن بلغ 32 ألف جنيه سوداني، بينما يباع البقري بـ20 ألفاً، والكبدة بـ24 ألفاً، وسط إقبال ضعيف واقتصار الشراء على كميات ضئيلة تصل في بعض الأحيان إلى “ربع الربع”، أو ما يُعرف محلياً بـ”لحم المكالمة الفائتة”.
في قطاع الخضراوات، يتحدث التاجر متوكل البشري عن زيادة الإقبال من المواطنين العائدين من النزوح، لكنهم يشترون بكميات محدودة. ويقول: “سعر كيلو الطماطم بلغ 7 آلاف جنيه، لذلك يلجأ الناس إلى شراء خضراوات بكميات صغيرة تُعرف بـ«سلطة» مقابل 4 آلاف جنيه”.
وتؤكد جولة «الشرق الأوسط» في السوق أن عودة المواصلات العامة ساهمت في انتعاش الحركة، لكن مشاهد الدمار لا تزال حاضرة: متاجر محطمة، آثار حرائق، أكوام نفايات، وتجّار يضطرون إلى تنظيف محيطهم بأنفسهم في ظل غياب الخدمات.
في ظل هذه الأوضاع، يجلس عمال اليومية تحت الشمس الحارقة في انتظار فرصة عمل، بينما تحاول النساء تأمين لقمة العيش بأي وسيلة. وتروي فاطمة بابكر، التي عادت من النزوح لتجد منزلها مدمراً ومسروقاً، معاناتها قائلة: “نجلس على الأرض في (راكوبة) من جوالات الخيش… أبحث عن عمل في السوق لأشتري سريراً ننام عليه”.
وإلى جانب الغلاء، يعاني المواطنون من نقص حاد في السيولة، وتدهور مريع في قيمة العملة المحلية، حيث تجاوز سعر صرف الدولار الأميركي 3 آلاف جنيه سوداني، ما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية، مثل السكر والعدس والدقيق، بشكل كبير خلال أسابيع قليلة.
رغم كل ذلك، فإن “سوق أم درمان” تبقى شاهدة على صمود سكانها، الذين عادوا رغم الجراح، متمسكين بالأمل في حياة أفضل، يتشاركون الألم والرزق، في قصص يومية تختصر معاناة شعب… لكنه لم يفقد إرادته.