نقلاً عن تقرير مجموعة الأزمات الدولية، كشفت المعطيات عن تحوّل المساعدات الإنسانية في غزة إلى أداة من أدوات الحرب، إذ فرضت إسرائيل، منذ بدء عدوانها في أكتوبر 2023، ثلاث موجات من الحصار الكامل استمرت كل واحدة منها حوالي 90 يوماً، كانت تترافق مع تحذيرات من المجاعة، يتبعها تخفيف مؤقت للقيود ثم إعادة تشديدها مع تراجع الاهتمام الدولي. وتشير بيانات “تصنيف مراحل الأمن الغذائي المتكامل” إلى أن 2.2 مليون فلسطيني في غزة يواجهون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، نصفهم يعيشون في مرحلة الطوارئ، وربعهم في مرحلة الكارثة، ما يعني انهياراً اجتماعياً شاملاً.
وفي مايو 2024، تم الإعلان عن “مؤسسة غزة الإنسانية” الأمريكية التي تتجاوز دور الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية، وتهدف لتوزيع مساعدات عبر أربعة مراكز محصنة فقط. ولكن التنفيذ أدى إلى مقتل العشرات وإصابة آخرين خلال محاولات الوصول إلى تلك النقاط، بسبب عبورهم مناطق قتال وتعرضهم لنيران الجيش الإسرائيلي. رغم وعد المؤسسة بتقديم 300 مليون وجبة خلال 90 يوماً، فإن هذا الرقم يعادل وجبة واحدة ونصف فقط لكل فرد، من دون تحديد مكونات تلك الوجبة، والتي تتكون من أطعمة غير مطهية في ظل غياب المياه النظيفة والوقود، وغياب كامل للخدمات الصحية والمأوى.
وأشارت الوثائق إلى أن إسرائيل خططت لحصر سكان غزة في مناطق جنوبية “معقمة”، وتحويل طلب الغذاء إلى أداة لجمع المعلومات من خلال نقاط تفتيش بيومترية، بينما لا تزال تقدم ما لا يتجاوز 1750 سعرا حراريا للفرد يومياً، وهو أقل بنسبة 25% من الحد الأدنى الذي كانت وزارة الدفاع الإسرائيلية قد حددته في 2011 لتفادي سوء التغذية. هذا المستوى لا يكفي لدعم الحياة، ناهيك عن التعافي من أشهر الحصار، وهو ما يشير إلى سياسة تجويع محسوبة لا يمكن فصلها عن حملة “مركبات جدعون” العسكرية.
تصريحات المسؤولين الإسرائيليين تعزز هذه السياسة، حيث قال وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إن تجويع سكان غزة حتى الموت سيكون عادلاً، فيما أكد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير أن المساعدة الوحيدة المقبولة هي تلك التي تدفع السكان للهجرة. وتكشف الممارسة الميدانية أن دخول المساعدات يرتفع فقط خلال فترات التهدئة السياسية وتبادل الأسرى، ما يؤكد أن المشكلة سياسية لا لوجستية.
رغم الادعاءات بأن القيود تهدف لمنع حماس من الاستفادة من المساعدات، فإن تقارير الأمم المتحدة والجيش الإسرائيلي والمبعوث الأمريكي الإنساني ديفيد ساترفيلد لم تجد أدلة على سرقات ممنهجة. بينما أكد السكان ومسؤولو الإغاثة أن عمليات النهب تتم على يد عصابات مسلحة مثل “أبو شباب”، بدعم غير مباشر من الجيش الإسرائيلي.
ويحذّر خبراء الصحة العامة من كارثة صحية وشيكة، إذ يترافق انهيار النظام الصحي مع مياه ملوثة، وحر شديد، وضعف مناعي واسع بين السكان، ما يجعل أي تفشٍ للوباء مهدداً بوفاة آلاف قبل أن تُعلَن المجاعة رسمياً. ويشير التقرير إلى أن سياسة إبقاء غزة تحت عتبة المجاعة دون تجاوزها، تحوّل مؤشرات الأمن الغذائي من أدوات إنذار مبكر إلى أدوات ضبط سياسي تُستخدم لتبرير الإبقاء على مستوى مرتفع من المعاناة دون دفع كلفة الغضب الدولي.