{سُبْحَانَ الَذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}..

د. نصر فحجان
. إنَّ الذي يَشدُّ الاِنتباه في هذه الآية الكَريمة هو ارتباط المسجد الحرام بالمسجد الأقصى ارتباطاً عضوياً لا انفكاكَ له، وهو ارتباط يشير إلىٰ بداية الانطلاق نحو الغاية، فالمسجد الحرام في الآية هو المُنطلق، والمَسجِد الأقصىٰ هو الغاية.
. وكما أن المسجد الحرام سُمِّي مسجداً منذُ البداية، فإنّ المَسجد الأقصىٰ سُمِّي منذ البداية مسجدًا، فالبداية سجود وخضوع لله تعالىٰ، والغاية الأقصىٰ سجود وخضوع لله تعالىٰ.
. جاءَ فى الحَديث عن أبي ذَرّ الغفاري رضي الله عنه أنه قال:
قلت يا رسول الله، أيّ مسجد وضع في الأرض أوَّل أيْ للصلاة فيه؟!
قالَ: المَسجِد الحرام،
فقلت: ثم أي؟!
فقال: المَسجِد الأقصىٰ،
قلت: كَم بينهما؟!
قال: أربعون سنة، ثم حيثما أدركت الصلاة فصلِّ، والأرض لكَ مَسجد.|
{صحيح البخاري 3366}.
. فهوَ مسجد يمتدّ إلىٰ عهد آدم عليه السّلام، وإن أكثر ما يثير الاهتمام ويدعو إلىٰ التأمّل هو اسم المَسجد الأَقصىٰ!
▪. لماذا سمّاه الله تعالىٰ (المَسجد الأقصىٰ)؟!
▪. لا يشك أحدٌ في أنَّ المَسجد الأقصىٰ هو الأبعَد والأقصىٰ جغرافياً عَن مكّة من المسجد النّبوي، وهو من المساجد الثلاثة التي تُشَدّ الرحال إليها، وإنّ من أقرَب وأوضَح التفسيرات لتسمية المسجد الأقصىٰ بهذا الاسم أنه الأقصىٰ والأبعد جغرافياً عن المَسجد الحرام بمكّة!
▪. ولكننا في هذا المقال أردنا أن نتدبّر كلمة:
(الأَقْصَا)، ونَستنبط منها بعض الَمدلولات والمعاني والأبعاد التي يمكن أن تضاف إلىٰ البُعد الجغرافي للمسجد الأقصىٰ على النّحو التالي:
▪. إن (المسجد الأقصىٰ)، ليسَ محدوداً زمنياً بوقت نزول السورة الكريمة، بل هو الأقصىٰ في كل الأوقات، وهو وإن كان الأقصىٰ من الناحية الجغرافية، لكنه الأقصىٰ أيضاً من الناحية العملية على أرض الواقع!
. وإلا فماذا يقول الذين لا يستطيعون الوصول إليه والصلاة فيه من أهل فلسطين وبيت المقدس وأكنافه، هَل هوَ بعيد عنهم جغرافياً؟!
أم أنّه بعيد عنهم من حيث حرية الوصول إليه، ومن حيث عدم سيادة أصحابه من المسلمين وأهل الديار عليه؟!
▪. ولئن كانت الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة، فإنَّ للمَسجد الأقصىٰ كرامة خاصّة!
. حيثُ الرباط والجهاد وبذل الأرواح والمهَج والدماء والأموال دفاعاً عنه، وذوداً عن أبوابه، وفي هذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم يلفت الأنظار إلى هذه المعاني ليظلّ الأقصىٰ في نظر المسلمين في كلّ الأزمان أكبر وأقصىٰ من كلّ الغايات!
▪. فعن أبي ذر رضي الله عنه قال:
. تذاكَرنا ونحنُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيهما أفضل، مَسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم مسجد بيت المَقدس؟!
. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
صلاةٌ في مسجدي أفضلُ من أربعِ صلواتٍ فيه، ولنعم المُصلّىٰ هو، وليُوشِكَنَّ أن يكون للرجل مِثْل شَطَنِ فَرسَه من الأرض حيث يَرى منه بيت المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعاً.. أو قالَ خيرٌ من الدنيا وما فيها.
▪. ومعنىٰ قوله صلى الله عليه وسلم: أيْ أنَّ المسجد الأقصىٰ سيكون من العسير على المسلمين أن يَصِلوا إليه، لِيُصلّوا فيه، بل إن بعضهم ستكون أكبر أمنياتهم أن يرَوه بأعينهم مجرد الرؤية، فهو في الأَسْر وتحت الاحتلال، ولا يستطيع أن يصل إليه المسلمون حتى من أبناء الأرض المقدّسة “فِلَسطين”، وأحياناً حتى من أبناء المدينة المقدّسة ذاتها.
▪. وفي هذا الحديث حثٌّ على حبّ الأقصىٰ والسّعيّ إليه، والمزاحمة من أجله ومن أجل الوصول إليه، والرباط فيه والدفاع عنه، ومن استطاع أن يمتلك مساحة صغيرة مثل زمام الفرس، _ أَيّ (مِتراً مربعاً) أو زد عليه قليلاً، بحيث يرى منه بيت المقدس، وإن لم يستطع الوصول إليه، فهوَ خيرٌ له من الدنيا بحذافيرها.
▪. وفي كل هذا من الأجور والثواب ما يجعل الأقصىٰ غاية الغايات، ومنتهى الأهداف لكل المسلمين،
فحَولَه وفي أكنافه ستكون دولتهم وقوّتهم وعزّتهم، وهو منتهى الأجر والتجارة مع الله تعالىٰ، إن كتِبَ لأحدٍ أن يستشهد علىٰ أبوابه،
وهو أقصىٰ القداسة والطّهارة، وأقصىٰ البركة ومركزها، وهو الأقصىٰ زماناً، حيث تنزل الخلافة ببيت المَقدس،
وينزل عيسىٰ بن مريم عليه السلام إلى الأرض المقدسة، فيقيم العَدل ويحكم بالقسط بإذن الله تعالى.
▪. وليسَ عبثاً بعد كل هذا أن يكون الأقصىٰ هو نهاية رحلة الإسراء، وبداية الرحلة إلى السموات العلا،
فهو أقصىٰ الرحلة ومبتغاها، وأقصىٰ الظهور على الحق، ثم هو الأقصىٰ من حيث سيكون الحَشر والنّشر لكل البَشر.
د. نصر فحجان – غزّة
من كتابه/ وَعد الآَخِرَة – زوال لا إبادَة