سمية بنت خياط .. أم الصابرين.. أول شهيدة في الإسلام
السابقون السابقون..
(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ.أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ.فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)
{الواقعة: 10 -11- 12}
إنها العجوز التي فهمَت ووَعَت معنى الإسلام قبل كبار الصحابة..
فقد كانت سابع من أسلم، وثاني امرأة بعد السيدة خديجة،
عن عبدالله بن مسعود قال: “أول من أظهرَ الإسلام سبعة: رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر، وبلال، وخباب، وصهيب، وعمّار، وأمه سمية”.
وفي الوقت الذي كان فيه عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، يعذّبون المسلمين ويحاربون دين الله، كانت هذه العجوز الشمطاء تجاهر بإسلامها، وتتحدّى قريش وطواغيتها…
سيّدتي سُمـيّة بنت خيّاط ..سلامٌ عليكِ
تحيةٌ معطّرةٌ بعبق الإسلام منذ استشهادك حتى يومنا هذا، أنثرها تحت قدميكِ، يا دُرّة تاريخِنا، وجذوة عزائِمنا، وجبال فخرِنا، والقصة التي بدأت ولن تنتهي حتى نلقاكِ أمام رب العالمين…
– كانت على مشارف السبعين من العمر، نحيلة الجسم، ضعيفة البنية، تعاني من أمراض الشيخوخة، فقيرة، بائسة، ولكن الله منحها روحًا عظيمة، وعزيمةً صارت مضرب الأمثال، لا تنكسر أمام الابتلاء والاضطهاد، وعقلا وَعَى وفهمَ وعرفَ وتيقّنَ من صِدق وعظمة الإسلام قبل كل كبار الصحابة من قريش وغيرها…
– لم تكن تملك مالًا ولا جاهًا، ولم يكن لها أحدٌ يمنعها أو يحميها من المشركين؛ فالرسول (صلى الله عليه وسلم)، منعه عمه، وأبو بكر الصدّيق منعه قومه، أما هي فقد ذاقت كل أصناف العذاب وألبسوها الدروع الحديدية الملتهبة، وصهروا جسدها الضعيف النحيل تحت لهيب الشمس الحارقة.
إنها “سُميـّة بنت خيّاط” أول شهيدة في الإسلام، مُلهمة النساء والرجال في كل زمانٍ ومكان، والمثال الناصع على الانتصار بالله، والاعتزاز بالانتساب إلى دينه، تهون عليها الحياة ولا يهون دينها.
أم عمار بن ياسر (سمية بنت خياط)
كانت “سُميّة بنت خيـّاط” أَمَة (من العبيد) لـ أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، تزوجت من حليفه “ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس العنسي” وكان ياسر عربيًا قحطانيًا من بني عنس، أتى إلى مكة هو وأخويه الحارث ومالك يبحثون عن أخيهم الرابع عبد الله، الذي خرج من اليمن إلى مكة، ولكنه لم يعد، وطالت غيبته، فخرج إخوته: ياسر والحارث ومالك أبناء عامر، وقدموا مكة يطلبون أخاهم، غير أنهم لم يقعوا على خبره، واستطاب المقام لأخيهم ياسر في مكة، واستعذب الجوار في جانب البيت العتيق، بينما رجع أخواه الحارث ومالك إلى اليمن.
– حالف “ياسر” أبا حذيفة بن المغيرة، وتزوّج من أَمَته “سُميّة بنت خياط” وأنجب منها عمارًا، فأعتقه أبو حذيفة، وظل ياسر وابنه عمار مع أبي حذيفة إلى أن مات، فلما جاء الإسلام؛ أسلم ياسر، وأخوه عبد الله، وسميّة، وعمار.
إسلام “سُميّة”
(سمع عمار بن ياسر عن محمد بن عبد الله وعن دينه الجديد فأعجبه ذلك الدين الذي يسوِّي بين كل الناس في الإنسانية والكرامة والعدالة، فتسلل خفية حتى دخل دار الأرقم، وهناك أعلن إسلامه، وشهدَ أن لا إلا الله وأن محمدا رسول الله، وعاد إلى بيته فرحًا مستبشرًا، سألته أمه سمية: ما لي أراك مسرورًا يا عمار؟، شرح عمّار لأمه ما عرفه عن الإسلام، وتلا عليها قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات:13]، قفزت سمية من مجلسها، وصاحت بلوعةٍ: خُذني إليه يا عمّار، خُذني لرسول الله)
واستقبل النبي صلى الله عليه وسلم سمية وابنها بالحفاوة والتكريم، ولقّنها كلمة التوحيد، وسمعها وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
العجوز التي تساقط لحم جسدها من التعذيب
– كانت هذه العجوز “سُميّة” من السابقين، فقد أسلمت قبل زوجها ياسر، وسابع مَن أسلم في قريش، فهذه العملاقة التي كانت من عبيد قريش الضعفاء الذين لا يملكون حَولًا ولا قوة، ورغم ذلك كله، أعلنت التحدي والصمود، حتى صارت قصة تعذيبها وجعًا تاريخيا، تتأوّه عند ذِكره الكتب، وتدمع أوراق المراجع، وعيون الباحثين
– فقد كانوا يُخرِجون هذه العجوز التي شارفت على السبعين، يوميًّا إلى رمال مكة التي تغلي من الحرور، ويصبّـون عليها كل صنوف التعذيب، هي وزوجها ياسر، وابنها عمار، ولم يبق في جسدها الشائخ مسافة عُقلة إصبع لم تحرقها النار، وتجلدها السياط،
– كانوا يجرّونها على الرمال الملتهبة، ثم يغرقونها بالماء مباشرةً بعد أن يحرقون جسدها، فيتساقط لحمها، وهم يتضاحكون ويتلذذون، ويتناوبون على تعذيبها هي وزوجها وولدها، كلما تعب جلاد، تولّى التعذيب غيره، ويمنعون عنهم الماء والطعام.
إن موعدكم الجنة
كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يمرُّ على المُعذَّبين من المسلمين يوصيهم بالصبر، وكلما مَرَّ على “سمية” وزوجها ياسر، وابنهما عمار، وهم يُعذّبون العذاب الشديد يقول: “صبرًا آل ياسر، إن موعدكم الجنة” [الطبراني].
فينسى الجميع آلامهم بهذه البشارة النبوية التي يهون أمامها كل شيء في الدنيا، بل تهون الدنيا وما فيها، ولذا اطمأنت قلوبهم، وازدادوا يقينا وإيمانا وصبرا.
بكاء سُـمـيّة
– رغم أن “سمية” لم تتذلل لجلاديها، ولم تطلب منهم الرحمة، رغم كل صنوف العذاب التي مزّقَت جسدها، وهو الشيء الذي حيّر كل الجلادين والمشركين، وظنوها مسحورة لا تحسّ، لكنها ذات يومٍ صرخت بأعلى صوتها باكية، فلم يصدّق الجلادُ الذي كان يعذبها وحوله جبابرة قريش يتضاحكون،
– إنها المرة الأولى التي تبكي فيها “سُـمـيّة” ويرتفع صراخها، ففرح القوم وظنوها عادت لدينهم، واستسلمت لهم،
ولكن “سمية” كانت قد سمعت ابنها (عمّار) الذي يُعذَّب بجوارها، يسبُّ النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقد تفنن المشركون في تعذيب عمار وحرقوا جلده كاملا، ثم وضعوا الرمل الملتهب والملح على جسمه المحروق، وخنقوه بحبل، وهو يئنّ من ألم جلده المحروق بالملح والرمل الملتهب، وهم يجروّنه بالحبل الذي ربطوه في رقبته، وقالوا له: سُبّ محمدا ونتركك، فلم يستطع الصمود، ففعل ما طلبوه
فصاحت الأم العجوز: إياك والكفر يا عمار..
إياك والكفر يا عمار..
إياك والكفر يا عمار..
إياك
إياك
وفكَّ المشركون قيود عمار وتركوه، فانطلق وجسمه ينزف دما، وذهب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال: ( أخذ المشركون عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ فلم يتركوه حتى سبَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال: ما وراءك؟، قال: شرٌ يا رسول الله، ما تُرِكْتُ حتى نِلْتُ منك، وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟، قال: أَجِدُ قَلْبِي مطمئنًا بالإيمان، قال: فإن عادوا فعد، فأنزل الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (النحل الآية: 106) رواه الحاكم
قال ابن كثير في تفسيره: “روى العوفي عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر، حين عذّبه المشركون حتى يكفر بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فوافقهم على ذلك مُكْرَهًا، وجاء معتذرا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فأنزل الله هذه الآية، وهكذا قال الشعبي، وأبو مالك وقتادة”
وعن عمر بن الحكم: قال: “كان عمار يُعّذَّب حتى لا يدري ما يقول”
اول شهيدة في الاسلام
– نالت “سُميّة” الشهادة بعد أن طعنها أبو جهل بحربته، لتكون أول شهيدة في الإسلام،
بعد أن يأس منها أبو جهل، فرعون هذه الأمة، ويأس من تركها لدين الإسلام، وعندما رأى ثباتها وصمودها، خشى أن يتحاكى الناس بقصة سُميّة وعزيمتها وقوتها، وهي العجوز الشمطاء، فتكون قدوةً للنساء والرجال…
ولكن شاء الله أن تبقى قدوةً ومثلا للعالمين، ويهلك الجهول أبو جهل، يسبُّه الناس ويسخرون من اسمه حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
سُـميّة الجبل الأشمّ
كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول لـ عمّار بن ياسر: “ابن سُـميـّة”، وعندما يقول رسول الله ذلك، فهو الفخر بعينه، والتكريم لهذه المرأة الصابرة المحتسبة
وروى الذهبي في تاريخ الإسلام، وسِيَر أعلام النبلاء عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا اختلف الناس كان “ابن سُميّة” مع الحقّ.
مدرسة سُـميّـة في الصمود والإباء والتحدي
– كانت “سميّـة بنت خـيّـاط” ، مجهولة في مكة، لا يعرفها أحد، أُمّ بسيطة الشأن، مغمورة، طاعنة في السن، غير أنها كانت راجحة العقل، بذلت روحها لإعلاء كلمة الله عز وجل، وكانت من السابقين الصابرين
– لم تصبر امرأة في تاريخ البشرية كـ “سمية”.. فرغم كبر سنها، وضعفها، وأمراض الشيخوخة التي تحاصرها، تحمّلت ما لا يستطيع أن يتحمله البشر، وصنعَت مدرسةً في الصبر والتحمّل والإباء والعزيمة، ستظل تحمل اسمها إلى يوم الدين.
العملاقة سُـمـيّة بنت خـيّـاط
سلامٌ عليكِ يا أم الصابرين، ومدرسة المسلمين، والعملاقة التي يقف تاريخ البشر أمامها صغيرًا صغيرا
سلامٌ عليكِ يا جبل الإسلام الأشم، وروحه المتوهجة، وبحره الزاخر، ودُرّة تاج تاريخ النساء والرجال
رحلتِ قبل أن ترفرف راية الإسلام، وقبل أن يرتفع صوت الأذان
فقد كنتِ الطريق الذي سارت عليه قوافل العقيدة،
والعملاقة التي مهّدت لنا الطريق لنتعلم ونرى ونعي
سلامٌ عليكِ كلما هبّت نسائمُ الإسلام من الشرق والغرب
سلامٌ عليكِ كلما ارتفع صوتُ أذانٍ فوق أي بقعةٍ على وجه الأرض
سلامٌ عليكِ يا أُمّـنا “سُميّة”
—————-
المصدر: (موسوعة “شموسٌ خلفَ غيوم التأريخ” – يسري الخطيب)