صدمة غزة وحال الأمة الإسلامية.. نحو استراتيجية جديدة لمواجهة التحديات
بقلم: عبد المنعم منيب
في 7 أكتوبر 2023م شنت المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة حماس هجوما مباغتا على المستعمرات الصهيونية والقواعد العسكرية للاحتلال الصهيوني في محيط قطاع غزة، ودمروا أغلبها وأسروا نحو 350 صهيوني وصهيونية كما لقى ما لا يقل عن 1200 صهيوني وصهيونية مصرعهم بسبب الاشتباك المسلح الذي جري أثناء هذا الهجوم.
وشن جيش الكيان الصهيوني حربا مجنونة منذئذ على قطاع غزة وبلغ عدد الشهداء الفلسطينيين حتى كتابة هذه السطور أكثر من 36 ألف شهيد كما أصيب أكثر من 80 ألفا آخرين، وأغلب الشهداء والمصابين هم مدنيون وأكثر من ثلثيهم هم من الأطفال والنساء.
هذه الحرب الصهيونية مدعومة من الولايات المتحدة وأغلب دول أوروبا ومستمرة في سحق الفلسطينيين في قطاع غزة وبدرجة ما في الضفة الغربية منذ أكتوبر 2023 وحتى الآن لمدة ثمانية شهور متواصلة، ورغم هذا فإن أكثر من مليار مسلم في العالم كله وعشرات الملايين من غير المسلمين ممن يناصرونهم في كل أنحاء العالم كلهم عاجزين عن وقف محرقة غزة الدامية هذه، فالكل عاجز في مواجهة الصلف الصهيوني وعدوانه على الفلسطينيين.
وهذا كله يمثل صدمة بالغة للمسلمين عامة وللنخبة الفكرية والحركية المسلمة بشكل خاص، وهذه الصدمة يجب أن تؤثر إيجابا على مستقبل المسلمين اذ لا ينبغي أن تمر علينا مرا عابرا.
إن حال الأمة الإسلامية كان مريرا جدا قبل صدمة غزة، ولكن كان يمكن للأبواق الكثيرة إخفاء هذه المرارة أو على الاقل التهوين من شأنها بالتقليل من حجم الكوارث التي تسحق الأمة الإسلامية برحاها، ولكن جاءت غزة كصاعقة ربما كي يستفيق المسلمون وينظرون في حالتهم الغثائية ويسعون الى تصحيح أوضاعهم، فكارثة غزة لا يضاهيها في الآونة الأخيرة سوى كارثة سوريا وان كانت كوارث أمتنا تفاقمت وتتابعت من مثل كوارث السودان واليمن والعراق وليبيا وأفغانستان والهند وميانمار وتركستان الشرقية وغيرها.
إن صاعقة غزة يجب أن تكون الميقظة لأنها كشفت غثائية الأمة الإسلامية والعربية إذ لم يفعل العرب والمسلمون الرسميون وغير الرسميبن لغزة شيئا سوى البكاء والعويل في صيغة شعارات وهتافات ومظاهرات وكتابة على السوشيال ميديا ونشر الصور والفيديوهات ونحو ذلك من البكائيات في صيغتها المعاصرة.
إن على أولي أمر الأمة أن يراجعوا أنفسهم بعد انكشاف هذه الحالة الغثائية المذرية لقوى الأمة الإسلامية والعربية كلها.
ولنكن صرحاء ولنضع كل النقاط على الحروف بوضوح، فعامة الشعوب العربية والإسلامية داخل دول منظمة المؤتمر الإسلامي وفي بقية أنحاء العالم لا تملك قدرة على التخطيط أو التنفيذ أو اتخاذ أي قرار إلا ما يصدر عن النُخَب القيادية سواء كانت فكرية أو حركية، ومن المعروف أيضا أن هذه النُخَب القيادية هي قسمان لا ثالث لهما وهى:
النُخَب القيادية الرسمية -فكرية وحركية- التي تمثل الأجهزة العربية والإسلامية الحاكمة، وهذه لها حساباتها وتصرفاتها الواضحة والتي ليس من شأن هذا التحليل المختصر أن يعرض لها، وإنما نحن سنركز هنا على النُخَب القيادية غير الرسمية أو الشعبية،
وهي:
النُخَب القيادية غير الرسمية -فكرية وحركية- وهي التي لا ارتباط لها بالأنظمة والأجهزة الحاكمة، وهذه الفئة من النُخَب نجد أن أغلبية المسلمين ترنو بأبصارها وآمالها إليها لاسيما بعدما ذاقوا مرارة الواقع الراهن.
لا شك أن النُخَب الإسلامية والعربية الرسمية مكبلة بأجنداتها واستراتيجياتها والتزاماتها ضمن النظام الدولي الذي يهيمن عليه التحالف «الصهيوصليبي» منذ أكثر من مئتي عام، ولكن ماذا فعلت النُخَب الإسلامية والعربية غير الرسمية سوى البكائيات؟!؟!
لقد صار لزاما علينا أن نجعل «كارثة/صدمة» غزة منطلقا لنا للارتقاء بأداء النُخَب الفكرية والحركية الإسلامية غير الرسمية كي ترتفع لمستوى التحديات التي تواجه أمتنا المسلمة وكي تلبي آمال عوام المسلمين وكافة المظلومين.
لقد دأبت نخبنا الفكرية والحركية غير الرسمية على اتباع استراتيجية تقليدية كررتها طوال المائتي عاما الأخيرة وهي استراتيجية قائمة على:
إيثار التأثير غير المباشر تجاه التحديات والمحن التي تداهم أمة الإسلام: فمثلا نجد أن أغلب العلماء والدعاة يكتفون بالخطاب الدعوي ولا ينغمسون في خطوات منظمة عملية تنفيذية على الأرض، وتعتبر المظاهرات ودعوات المقاطعة والكلام والكتابة في الإعلام التقليدي والجديد كلها من أدوات التأثير غير المباشر فهي دعوة للعمل ولكنها ليست هي العمل الفعلي على الأرض، بعكس ما لو اشتبكت عمليا في قتال متلاحم مع العدو أو قدمت مساعدة عملية حاسمة تمكن المشتبكين مع العدو أو المشتبكين مع المشكلات من تحقيق انتصارات، أو بادرت بعقد اتفاقات سياسية تتيح فرصا متزايدة لحسم الصراع وكل ذلك نذكره على سبيل المثال لا الحصر.
التقليدية في استخدام الفرص: تعودت عليها هذه النُخَب ونفس التقليدية نجدها في استخدامهم للأدوات المعتادة دون إبداع ودون الانتقال لاستخدام أدوات جديدة، والأمثلة التي ذكرناها في السطور السابقة هي خير تجسيد لهذه المشكلة، فالإضراب والتظاهر والمقاطعة والخطابة كلها أدوات استخدمها علماء الأزهر منذ عصر دولة المماليك، ولا زلنا نحن -كنخب فكرية وحركية- نكاد نقتصر عليها حتى اليوم.
وهذه التقليدية والاقتصار على العمل بلا مباشرة تولد عنها آفة أخرى وهي عدم إدراك ماهية كل ميادين وأدوات العمل المتاحة، نعم قد يسجن الجبن بعض شرائح هذه النُخَب عن إدراك كافة الفرص والأدوات وقد يعوق قصور العلم أو قلة البصيرة آخرين عن إدراك هذه الفرص، ولكن التقليدية والجمود على المعتاد وعدم الانغماس في المواجهة المباشرة مع المشكلات والتحديات هو الذي يعوق أغلب النُخَب الإسلامية غير الرسمية عن إدراك كافة الفرص والأدوات كما يعوقها عن الاستفادة بما تتيحه الثورتين الصناعيتين الثالثة والرابعة من تحولات وفرص في العالم كله.
إن الإبداع الحركي والسياسي مع إدراك الفرص والأدوات المعاصرة المتاحة يوجب علينا الانتقال الى استراتيجية جديدة تعتمد على:
الاشتباك مع التحديات الكبرى المفروضة على أمتنا المسلمة بدل الاكتفاء بالتأثير غير المباشر كما هو الحال الآن.
التحسب للأزمات قبل وقوعها باستشراف سيناريوهات المستقبل واعداد سيناريوهات وإمكانات مواجهتها والتعامل معها.
استغلال جميع الفرص بما في ذلك الفرص الجديدة والفرص التي تتيحها المتغيرات في القرن 21م وطبعا تجنب جميع المخاطر قدر الامكان.
ومن لوازم هذه الاستراتيجية الجديدة أن نبني قدرات ومهارات ونفوذ يمكننا من:
اتخاذ ردود أفعال مكافئة للحدث.
شن تحركات استباقية والأخذ بزمام المبادرة في كل الميادين التي تحتاجها الأمة الإسلامية.
إننا بحاجة الى قدرتين:
قدرة تفكير وتخطيط: وهذه محلها مراكز دراسات ذات كفاءة كبيرة سياسية واستراتيجية واقتصادية.
قدرة تنفيذ حركي: وهذه محلها لجان أو منظمات عابرة للقومية وتتمتع بحرية حركة واستقلالية عن أي ضغوط أيا كان مصدرها قدر المستطاع، علما أن المستطاع أكبر بكثير مما هو في خيال أغلبنا.
وفي كلا المجالين بل وفي كل مراحل ومجالات هذه الاستراتيجية يجب أن نرتكز على الاحترافية والكفاءة العلمية المتخصصة في إطار من الصدق والإخلاص والولاء لله ورسوله والمؤمنين بعيدا عن الشللية والتحزبات والرايات المعاصرة التي عادة ما تفرق المسلمين وتفشلهم بل تسحقهم سحقا، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} سورة المائدة.