في الوقت الذي يحتدم فيه السباق العالمي على النفوذ في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، يتزايد التوتر بشكل غير مسبوق بين الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان،
الجزيرة التي كانت يومًا ما ملفًا مؤجلًا، لكنها اليوم باتت محور مواجهة مفتوحة بين قوتين عظميين. وبات من الواضح أن تايوان لم تعد فقط “قضية صينية داخلية”، بل تحولت إلى ساحة اختبار لميزان القوة الدولي في 2025.
القبضة الصينية تتمدد في المضيق
شهد شهر يونيو ويوليو الماضيين ذروة في التحركات الصينية تجاه الجزيرة، حيث نفّذ جيش التحرير الشعبي الصيني أكبر مناوراته لهذا العام في محيط مضيق تايوان، أُطلق عليها “Strait Thunder–2025A”.
المناورات لم تقتصر على الطيران الحربي، الذي اخترق المجال الجوي التايواني بأكثر من 76 طائرة مقاتلة، بل شملت أيضًا تحرك 15 قطعة بحرية عبر الخط الأوسط للمضيق، وهو الخط غير الرسمي الذي لطالما شكّل عازلًا عسكريًا بين الجانبين. فضلًا عن ذلك، أُجريت تجارب بصواريخ مضادة للسفن وتشويش إلكتروني مكثف على اتصالات الجزيرة.
بحسب وزارة الدفاع التايوانية ومصادر تحليلية غربية مثل مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، فإن هذه المناورات تُفسَّر على أنها محاكاة عملية لحصار بحري جزئي، يهدف إلى عزل الجزيرة سياسيًا واقتصاديًا دون إعلان حرب مباشرة.
الخبير العسكري الأمريكي “تيموثي هيث” من مؤسسة راند يرى أن هذه التحركات تمثل تحولًا من “الاستعراض إلى الإنذار”، ويقول: “بكين لا تختبر رد فعل تايوان فقط، بل تريد معرفة حدود الصبر الأمريكي”.
دعم أمريكي مضطرب وتحركات مرتبكة
في المقابل، تواصل الولايات المتحدة إرسال إشارات متباينة. ففي حين أكد وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث في منتدى سنغافورة الأمني أن “الولايات المتحدة لن تتراجع أمام أي اعتداء على تايوان”،
جاءت الأفعال على الأرض أقل صلابة. تم إلغاء اجتماع رفيع مع وزير الدفاع التايواني، كما مُنع الرئيس التايواني، لاي تشينغ-تيه، من التوقف في الأراضي الأمريكية خلال رحلته إلى أمريكا الوسطى.
هذه التناقضات أثارت استياءً واسعًا داخل الأوساط التايوانية، التي بدأت تشكك في مدى التزام واشنطن بالحماية المعلنة. المحلل السياسي الأمريكي إيان بريمر وصف موقف البيت الأبيض بـ”المرتبك”،
وقال في مقابلة مع مجلة “تايم”: “إدارة ترامب تراهن على كسب الوقت… إنها تخشى من فقدان شركائها التجاريين في الصين قبل الانتخابات، ولا تريد تصعيدًا شاملًا الآن”.
تايوان تقرأ الرسائل وتحشد أوراقها
في ظل هذا التردد، وجدت تايبيه نفسها مضطرة لتعزيز استراتيجياتها الدفاعية الداخلية. فقد أجرت القوات المسلحة التايوانية تدريبات واسعة لمحاكاة سيناريوهات الهجوم البحري والجوي، بمشاركة عناصر من المدنيين.
كما كثّفت اتصالاتها مع اليابان وكوريا الجنوبية، وأوفدت مسؤولين أمنيين إلى طوكيو وسيول من أجل التنسيق المشترك في حال اندلاع أزمة شاملة. المستشار الرئاسي التايواني لي مينغ-تشوان قال صراحة: “لا يمكننا الاعتماد فقط على تعهدات أمريكية متذبذبة… علينا أن نبني مظلة أمن إقليمية بأيدينا”.
وبحسب تقارير نُشرت في وكالة NHK اليابانية، فإن التعاون الثلاثي بين طوكيو وتايبيه وسيول أصبح أكثر وضوحًا خلال الأسابيع الأخيرة.
حرب الاقتصاد تطرق أبواب الجزيرة
وفي الجانب الاقتصادي، يبدو أن الصراع بلغ أبعاده القصوى. المفاوضات التجارية بين بكين وواشنطن، التي عقدت في العاصمة السويدية ستوكهولم، انهارت في أواخر يوليو، ما يعني عودة تطبيق الرسوم الجمركية في منتصف أغسطس، بعد فترة هدنة استمرت لعام ونصف. لكن الأكثر إثارة كان فرض الولايات المتحدة رسومًا جديدة بنسبة 20% على صادرات صناعية تايوانية غير تكنولوجية.
وبينما استثنيت أشباه الموصلات من العقوبات، رأى اقتصاديون في تايوان أن القرار يعكس تحوّلًا في المصلحة الأمريكية من الدعم الشامل إلى الدعم “المشروط”. البروفيسور التايواني تشيانغ يي-هوا علّق بالقول: “واشنطن تريد رقائقنا، لكن لا يبدو أنها مستعدة للدفاع عنا فعليًا… وهذا يدفعنا لمراجعة أولوياتنا الاستراتيجية”.
قانون أمريكي جديد يلوّح بالعقوبات ضد بكين
ورغم هذا التردد في بعض القرارات، فإن الكونغرس الأمريكي مرر في 22 يوليو قانونًا جديدًا بعنوان “ردع صراع تايوان”، يسمح بفرض عقوبات على المسؤولين الصينيين والشركات المشاركة في أي عدوان ضد الجزيرة.
ويتضمن القانون بنودًا تتيح كشف الأصول المالية للمسؤولين الصينيين في الخارج، وتجمدها عند الضرورة. السيناتور ليندسي غراهام قال عقب التصويت: “هذه رسالة واضحة… إن قررتم الحرب، ستخسرون ممتلكاتكم ومصالحكم حول العالم”.
وبحسب ما نشر في موقع بوليتيكو، فإن هذا القانون يعكس مزاجًا متشددًا في الكونغرس يتجاوز الإدارة التنفيذية، ويمهد لعقوبات استباقية.
السيناريوهات المحتملة: من التجميد إلى الحصار
في ظل هذا المشهد المعقد، يبدو أن الخيارات المستقبلية أمام تايوان والعالم تضيق.
السيناريو الأول والأكثر ترجيحًا هو استمرار ما يسميه الخبراء بـ”التصعيد الرمادي”، أي مناورات وضغوط سيبرانية وتجارية دون الدخول في حرب صريحة، وهو ما يمنح بكين أفضلية السيطرة النفسية والسياسية دون خسائر ميدانية مباشرة.
السيناريو الثاني هو الحصار البحري الجزئي، والذي قد ينفّذ في أي لحظة إذا فشلت الصين في إقناع المجتمع الدولي بوجهة نظرها، وهو خيار ينطوي على مخاطر اقتصادية عالمية فورية، خاصة في قطاع التكنولوجيا وسلاسل التوريد.
أما السيناريو الثالث، الأقل احتمالًا، فهو الوصول إلى تفاهم غير معلن عبر وسطاء أوروبيين أو آسيويين، وهو ما وصفته مجلة “فورين أفيرز” بأنه “تجميد مرحلي للأزمة”، لكنه لا يمثل حلًا حقيقيًا على المدى الطويل.
الختام: شرارة صراع أكبر من الجزيرة
في نهاية المطاف، فإن ما يجري في تايوان اليوم يتجاوز حدود الجغرافيا. إنها معركة رمزية على النفوذ بين نموذجين عالميين: الصين الصاعدة التي ترى في استعادة الجزيرة تصحيحًا تاريخيًا، والولايات المتحدة التي تجد في خسارتها بداية انحسار نفوذها في آسيا.
وبين هذين الطموحين، تقف تايوان كجزيرة صغيرة لكنها ثقيلة في ميزان المصالح. الخطر الأكبر لا يكمن في قرار متعمّد بالحرب، بل في انزلاق غير محسوب أو استفزاز ميداني قد يتحوّل إلى شرارة لنزاع لا يريد أحد خوضه… لكن الجميع يستعد له.