حرص الرَّصد القرآني للمجتمعات على النَّصّ على فريقين في اتجاهين متدافعين، ولا يأبه لغيرهما مع وجودهم على هامش الفريقين، وهم المتذبذون الذين يتنقّلون ويتقلّبون بين الفريقين، فلم يذكر القرآن مآلهم.
فاهتم القرآن بإبراهيم-عليه السلام- والنّمرود -باعتبارهما الاتجاهين المتدافعين- ولم يأتِ على ذكر المتذبذبين بينهما، وكذا أهل السبت وكذا فرعون وهامان وقارون وموسى؛ وهكذا يجري القرآن برصد طرفين لكل قضية، والسكوت عمّن يتساقط من الطرفين حتى نهايتها.
بينما الرّصد البشريّ اليوم لا يهتم بطرفي التّدافُع، لأنه ليس منصفًا ولا حياديًّا، ولكنه طرف من الطرفين الأصليّين، وإن كانت علاقته بطرف من الأطراف خفيّة، ولا يهتم إلا بالمتذبذبين والهوامش، ويعظِّم من أمرهم، ويجنح لهذا السّبيل، لينصر طرف على طرف، ويبُثّ الرّيبة في قلوب الطّرف الثاني.
ومن أمثلة الرّصد القرآني قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (الأعراف: ١٦٣، ١٦٦)
وقال تعالى في سورة “البقرة”: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: ٦٥، ٦٦)
وكذلك في قصة فرعون وموسى؛ ومن العجيب أن تقدم ذكر قارون على فرعون فيها قال تعالى:{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (العنكبوت: ٣٩، ٤٠)
وهكذا يجري الرّصد القرآني بذكر الطّرفين ومآلهم ولم يأبه أو لم يذكر المتذبذبين بين هؤلاء وهؤلاء، ولم يرفع حتى من شأنهم كطرف أصيل في مجريات الحياة والكون.