السبت أكتوبر 5, 2024
مقالات

صفوت بركات يكتب: معانٍ في الهجرة أوّل مرّة ستسمعها

مشاركة:

حين تقرأ عن الهجرة وتسمع أنّها فرار بالدِّين وهروب من الأعداء تكون وَقَعتَ في فَخّ التّضليل، لأنّ الله -سبحانه وتعالى- ذكرها كموقعة حربيّة تقتضي نصرًا أو هزيمةً، والله -سبحانه وتعالى- يُخبِر عن نتائجها ومآلاتها بخلاف ما تسمع أو سمعتَ عنها من قبل، قال تعالى: {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ معنا} [التوبة، 40].

– فلم تكن الهجرة يومًا فرارًا بدين ولا هروبًا، ولكنّها الحرب والنّصر!

الهجرة كانت منتهى التّهديد الجَمعي للعالَم كافّة، وليس لقريشَ وحدها، وكانت قرارًا أخطر ممّا يَذهب إليه قائدٌ لثُلّة منَ البشر، وليست هروبًا ولا حتى اجتهادًا في بُلوغ النّجاة أو السّعي إليها؛ فلقد اجتهد مِن قبله النّصارى واليهود وفَرّوا بدينهم للأديرة والكنائس فكان فرارهم سببًا في ترك المجتمعات فريسةً للضّلال والكفر ليسودها، فنزل الإسلام ليصلح ما أفسدوه.

إذاً، لم تكن فرارًا ولا مُجرّد نجاة، بل كانت حربًا وانتصارًا وإعلانًا لحرب لن تتوقّف إلى يوم القيامة أو نزول عيسى بن مريم -عليه السّلام- ليكسر الصّليب ويقتُل الخنازير.

إنّما الجهاد شُرِع لحفظ البيضة أي الأرض أو الوطن والأهل من زوجة وأبناء، وحفظ عرضهم وأموالهم بعد الدّين؛ والهجرة كانت تعاليًا على ذلك كُلّه والتّضحية به (أي الجهاد) من أجل الدّين فقط؛ لهذا كان إعلانَ العداوة مع الكون كُلّه قرارًا أخطر من الجهاد والقتال، لأنّه لم يبقَ لعَدوّه ما يُفاوِض عليه من أهلٍ وأرضٍ (أي، وطن) أو مالٍ أو عرضّ.

الهجرة كانت أكبر معركة ممّا تبعها من معارك وغزوات، لأنّها معركة لا غنائم لها ولا فيها، ولهذا قال تعالى: {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ معنا} [التوبة، 40].

ولادة الأُمَم ظرف تاريخيّ لا يُنظَر إليه من منظار فقهيّ بَحتٍ، ولكن من منظار السّياق العامّ وأوزان الأُمَم وما يَحكُم اللحظة ويُؤثّر فيها سلبًا وإيجابًا.

البعض يَقِف عند السّياق اللُّغويّ عند تفسير لفظٍ سواء كان أمرًا أو نهيًا أو إباحةً أو إذنًا؛ فالمُفَسّر يلتزم بالسّياق من سباقٍ ولحاقٍ، ويتجاهل الظّرف التاريخيّ عند الحوادث الكبرى ومنها: الهجرة النّبوِيّة -على صاحبها وصحبه الصّلاة والسّلام ورضى الله عنهم-، ويتجاهل أنّ العالَم كان بين قُوّتين مُهَيْمِنتين هما الفرس والروم، ويتقاسمان قبائل الجزيرة العربيّة من حيث الولاء والحِراسة حتى أنّ «كِسرى وقيصر» استدعيا مَن يأتيهم بخبر مُحمّد -عليه الصّلاة والسّلام- بل طمع أحدهم بأن يُجلَبَ له ليَمْثُل بين يديه عُنْوةً لو أبى الذّهاب والهجرة إليه، وهو ما جعل الهجرة ليست إلا عملًا عدائيًّا للجميع شرقًا وغربًا، وهو أخطر من عداوة أهل الجزيرة والقبائل ومِن قلبهم قريش وغيرها من القبائل، ومن نصارى ويهود حين ذاك وإلى يوم القيامة.

إنّ ما نزل من القرآن قبل الهجرة لم يكن سرًّا بل يُتلي آناء الليل وأطراف النّهار، ويُتدَاول خبرُه حتى بلغ «كسرى وقيصر»، وفي البِيَع والأسواق والنّوادي يهدم الشّكّ في نفوس وقلوب وعقول العالَم كُلّه بلا استثناء بأنّ القرآن نزل ليُصيغ الكون بحُكمه، ويُصبغه بصِبغته، ويَسلِبُ كُلّ الطُّغاة مكانتهم ويُحطّم كُلّ الأصنام في القلوب، لهذا كانت الهجرة إعلانَ حربٍ ونصرٍ، وليست فرارًا وهروبًا وسعيًا للنّجاة.

إنّ انتشار اليهود بالجزيرة العربيّة والشّام وهم أربابُ الدِّعاية والإعلان، وهو ما كان من وسائلهم الخادمة لمهنهم وحِرَفهم من الرِّبا وصناعة السِّلاح وغيره، وانتظارهم لنَبيٍّ يُبعَث منهم فيَدِين لهم به العالَم؛ وهم وقتئذ لم يكونوا إلا خَدَم وعَبيد (أي رقيق) عند القُوّتين العالَمِيّتين آنذاك، والتي بالطّبع كانتا مُتَحفّزتين لتهديد اليهود، وفي حالة عداء للنّبيّ المنتظر قبل بعثته، وربما قبل ميلاده، وهو ما جعل الهجرة النّبوِيّة من أكبر المعارك وأعظم الانتصارات، قال تعالى عنهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [البقرة: 89، 90]

ما لا يقال على المنابر أنّ الهجرة تنفي عن الإسلام قبول التّبعيّة، ولا يصلُح أن يُقام وهو تابع، فإمّا أن يكون المهيمن وإلّا كانت الحياة ذُلًّا؛ فمِن شُروط تبليغ الرِّسالة ألّا تخضع لأيّة قُوّة، ولا تَندمج في غيرها، ولا تتحالَف ولا تقبل المواءمة.


‏تابع قناة جريدة الأمة الإلكترونية في يوتيوب

تابع قناة جريدة الأمة الإلكترونية في واتساب

Please follow and like us:
صفوت بركات
أستاذ علوم سياسية واستشرافية https://youtube.com/@alomhaa

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *