إن الضربة الأميركية المباشرة على المنشآت النووية الإيرانية، والتي جاءت بعد أسبوع من القصف الإسرائيلي المركز ضد الدفاعات الجوية الإيرانية، لا تبدو ـ في ضوء القراءة الجيوسياسية الأوسع ـ مجرد تصعيد عسكري معزول، بل هي نتاج مسار مدروس نحو خلق حالة توازن ضعف بين المشروعين المتصارعين على النفوذ الإقليمي: المشروع الإيراني التوسعي والمشروع الإسرائيلي الأمني العسكري.
هذا التحليل ينطلق من فرضية أن القوى الكبرى – وعلى رأسها الولايات المتحدة – لا تسعى إلى تمكين أحد الطرفين بحسم المعركة، بقدر ما ترغب في إبقاء الجميع في حالة إنهاك دائم يمنعهم من السيطرة الكاملة على الإقليم.
التخلي الأمريكي كأداة تمهيدية
خلال الأشهر الماضية، بدا وكأن واشنطن تتبع سياسة “الغياب المقصود”، إذ تركت إسرائيل تواجه التصعيد الإيراني بمفردها في البداية، بل وأرسلت رسائل ضمنية مفادها أن المواجهة يجب أن تبقى في الإطار الإقليمي دون تدخل مباشر.
وفي المقابل، تركت إيران تستنزف قوتها العسكرية والاقتصادية في دعم جبهات متعددة (غزة، لبنان، سوريا، العراق)، دون تقديم أي طوق نجاة سياسي، لا عبر الاتفاق النووي ولا عبر فتح قنوات حوار واضحة.
هذا التخلي لم يكن غفلة، بل يمكن تفسيره كجزء من استراتيجية إدارة الصراع لا حله، وهو نهج معروف في الأدبيات الاستراتيجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط.
بمعنى أوضح: واشنطن تعلم أن تمكين إسرائيل بشكل مفرط سيُحدث انهيارًا في التوازن الهش القائم، تمامًا كما أن تمكين إيران سيؤدي إلى تصدع شامل في النظام الأمني للمنطقة. لذا، جاء التدخل الأميركي الأخير ـ المفاجئ في توقيته ـ بعد أن أنهكت إسرائيل الدفاعات الإيرانية، فأكملت أميركا الضربة، ثم أعلنت على الفور: “الآن هو وقت السلام”.
توازن الضعف لا توازن القوى
ما يحدث الآن ليس تأسيسًا لتوازن قوى كلاسيكي، بل توازن ضعف، يقوم على أن كل طرف رئيسي في المنطقة (إسرائيل وإيران) لن يستطيع التفرد بالهيمنة، بسبب التآكل الاستراتيجي الذي يطاله جراء الحرب المستمرة.
إسرائيل رغم تفوقها التقني تعيش حالة استنزاف سياسي وعسكري، خاصة بعد انكشاف عمقها الجغرافي لهجمات غير تقليدية.
وإيران، رغم طموحها الإقليمي، تتآكل من الداخل بفعل العقوبات، والتظاهرات، والاستنزاف العسكري على جبهات متعددة، والآن بفعل ضرب منشآتها الاستراتيجية.
هذه الحالة تُنتج فراغًا نسبيًا يسمح لقوى أخرى (إقليمية أو دولية) بإعادة التموضع أو ملء الفراغ بشكل انتقائي.
المستفيدون من الفراغ بين المشروعين
إن تراجع المشروعين الكبيرين في المنطقة، الإيراني والإسرائيلي، يفتح الباب أمام صعود قوى متوسطة أو بديلة، ربما في هيئة تحالفات أمنية جديدة ترعاها دول مثل:
- تركيا، التي تجمع بين القوة العسكرية والطموح الجيوسياسي، لكنها لا تصطدم مباشرة مع أميركا ولا إيران حتى الآن.
- السعودية والخليج، اللذان يبنيان استراتيجية “التوازن الهادئ”، أي استثمار الفوضى في بناء تحالفات اقتصادية وتكنولوجية بعيدًا عن ساحة الصراع.
- مصر، التي قد تُعيد تفعيل دورها الإقليمي كقوة توازن تقليدية، خاصة في ظل سعيها لتأمين أمن البحر الأحمر وليبيا وغزة.
مخرج استراتيجي لصالح من؟
بإنتاج “توازن ضعف”، تُعيد واشنطن ضبط المسرح الإقليمي وفق ما يتيح لها توجيه الأحداث دون تدخل دائم. فهي تحتفظ بأدوات الردع، لكنها لا تتحمل كلفة الحرب ولا مسؤولية بناء السلام الكامل.
روسيا والصين، من جهتهما، يراقبان من بعيد ويستفيدان من الفوضى في تثبيت نفوذهما السياسي والاقتصادي، سواء عبر ملف الطاقة، أو العقود الاستراتيجية، أو عبر اللعب على تضارب المصالح.
أما بالنسبة للمنطقة، فإن النتيجة الفعلية لهذا السيناريو هي أن الهيمنة الكاملة لأي مشروع قد أصبحت مستحيلة، فيما يتم تحريك اللاعبين داخل ساحة ضيقة، بأدوات محدودة، ووفق قواعد لم يضعوها هم، بل فُرضت عليهم بفعل الضربات والإرهاق.
ما نشهده اليوم ليس تصعيدًا منفلتًا من السيطرة، بل تصعيدًا مضبوطًا بدقة، هدفه ليس الانتصار، بل الإنهاك المتبادل، وهو ما يمكن وصفه بـ”التوازن عبر الاستنزاف”.
الولايات المتحدة لم تُحارب إيران لإسقاطها، ولم تحمِ إسرائيل لتعزيز هيمنتها، بل ضربت الجميع بما يكفي لضمان أن لا أحد يستطيع أن يربح.
وهكذا، تُترك المنطقة في حالة من الشلل الاستراتيجي الطويل، بينما تُفتح الأبواب أمام لاعبين جدد، وخرائط نفوذ غير نهائية، ومجال رحب للوساطات، والتوازنات المرنة التي تُبقي الجميع تحت خط الهيمنة الكاملة.