منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام 1991، تسير طاجيكستان في مسار سياسي تتسم معالمه بثبات السلطة في يد نخبة ضيقة، وتراجع متواصل في مؤشرات الحريات السياسية والإعلامية، في ظل نظام يحكمه رجل واحد منذ أكثر من ثلاثة عقود، وسط خطاب إصلاحي لا يجد انعكاسًا فعليًا على أرض الواقع.
الجمهورية الوريثة: من إرث الحزب الواحد إلى الحزب الحاكم
نشأت طاجيكستان كجمهورية سوفيتية عام 1929، وكان الحزب الشيوعي هو السلطة الوحيدة والمطلقة. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، أعلنت طاجيكستان استقلالها، لكنها لم تشهد قطيعة جذرية مع الميراث السلطوي، بل حملته معها إلى النظام الجديد، وإن تحت أسماء ومؤسسات أخرى.
في العام 1992، دخلت البلاد في حرب أهلية دموية استمرت حتى عام 1997، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن خمسين ألف شخص، وتشريد مئات الآلاف. شكلت الحرب نقطة تحول حاسمة، حيث أتاحت للرئيس الحالي إمام علي رحمون، الذي تولى السلطة عام 1992، ترسيخ موقعه السياسي مستفيدًا من الفوضى والصراعات العرقية والمناطقية.
ورغم التوصل إلى اتفاق مصالحة وطنية برعاية أممية في عام 1997، فإن ذلك لم يمهّد فعليًا لمرحلة تداول حقيقي للسلطة، بل مهّد لحقبة من تثبيت الحكم الفردي على أسس قانونية ودستورية مشروعة ظاهريًا، لكنها مفرغة من جوهر التعددية السياسية.
الرئيس الدائم: إمام علي رحمون ونموذج السلطة المتجذرة
منذ عام 1992، يحكم إمام علي رحمون طاجيكستان بلا منازع. أُعيد انتخابه ست مرات، في انتخابات لم تُعتبر نزيهة أو تنافسية من قبل المراقبين الدوليين. في عام 2003، أُجري استفتاء دستوري سمح له بترشيح نفسه لدورتين جديدتين، وفي 2016 تم تعديل الدستور مجددًا ليمنحه صفة “قائد الأمة” ويتيح له الترشح دون قيود زمنية، في حين خُفّض سن الترشح إلى 30 عامًا، ما فُسّر على نطاق واسع كتمهيد لدور محتمل لنجله، رستم إمام علي، الذي يشغل حاليًا منصب رئيس مجلس الشورى (الغرفة العليا للبرلمان) وعمدة دوشنبه.
تبدو السلطة اليوم في طاجيكستان وكأنها تتهيأ لانتقال وراثي هادئ، وإن غير معلن، على غرار نماذج سلطوية مشابهة في آسيا الوسطى، حيث يُعاد إنتاج النظام من داخل الأسرة الحاكمة، في ظل بنية حزبية مغلقة وتحكم أمني محكم.
المعارضة.. من السلاح إلى المنفى
شهدت التسعينيات تعددية نسبية، بوجود أحزاب إسلامية ويسارية وقومية، خصوصًا بعد اتفاق المصالحة عام 1997، الذي منح المعارضة المسلحة ثلث مقاعد الحكومة المؤقتة. غير أن هذا التعدد بدأ بالتآكل تدريجيًا.
في عام 2015، تم حظر “حزب النهضة الإسلامي”، الذي كان القوة المعارضة الأبرز في البلاد، وصُنف كمنظمة إرهابية. تبع ذلك حملة اعتقالات وإعدامات بحق قيادات الحزب وقواعده، ما أجهض أي إمكانية لوجود معارضة منظمة داخل البلاد. أما الأحزاب الأخرى، كالحزب الديمقراطي أو الحزب الاشتراكي، فإما أنها هامشية أو موالية للحكومة، وتعمل ضمن هوامش ضيقة دون أي قدرة على منافسة فعلية.
باتت الساحة السياسية اليوم أحادية بامتياز، حيث يهيمن “الحزب الديمقراطي الشعبي” الذي يتزعمه الرئيس، وتغيب المنافسة، في حين تحوّلت المعارضة إلى ظاهرة خارجية في المنفى، تعاني من الانقسامات والملاحقات الدولية.
الصحافة والمجتمع المدني: قيود مستمرة ومساحات مهددة
يُصنف المشهد الإعلامي في طاجيكستان كواحد من الأكثر تقييدًا في آسيا الوسطى. تخضع وسائل الإعلام لرقابة صارمة، وتُمنع التغطيات التي تتناول قضايا الفساد أو الجيش أو أسرة الرئيس. الإنترنت نفسه مراقب بشكل دائم، ويتم حجب المنصات والصفحات التي يُشتبه في أنها تنتقد النظام.
الصحفيون المستقلون يواجهون حملات ترهيب واعتقال، وقد فرّ عدد منهم إلى الخارج. في السنوات الأخيرة، ارتفعت وتيرة القمع ضد المدونين والمواطنين الناشطين على وسائل التواصل، وتمت ملاحقة من ينشرون محتوى يعتبر “معاديًا للدولة”، حتى وإن كان يحمل طابعًا ساخرًا.
أما منظمات المجتمع المدني، فوجودها مرهون بالتسجيل الحكومي والموافقة الأمنية، مع قيود مشددة على التمويل الأجنبي. وقد تم إغلاق العشرات منها في السنوات الأخيرة بتهم “المساس بالأمن القومي” أو “العمل لصالح أجندات خارجية”.
الدين والسلطة: الإسلام تحت السيطرة
رغم أن طاجيكستان ذات غالبية مسلمة، إلا أن الدولة تنظر إلى الدين بعين الشك منذ انتهاء الحرب الأهلية. تخضع المساجد والمراكز الإسلامية لرقابة دقيقة، ويُمنع ارتداء الحجاب في المؤسسات التعليمية والحكومية. كما فُرضت قيود على التعليم الديني، وتم منع إرسال الأطفال إلى مؤسسات دينية خارج البلاد دون تصريح رسمي.
هذه السياسات تنبع من مخاوف السلطة من تكرار سيناريو الحرب الأهلية، التي شهدت صراعًا بين القوى العلمانية والإسلامية، ولكنها أيضًا تستخدم هذه المبررات كذريعة لضبط المجال العام وتقليص أي نشاط خارج سيطرة الدولة، حتى وإن كان سلميًا.
الانتقال السياسي: غياب التداول وترسيم الخلافة
في ظل غياب مؤسسات دستورية فعالة، ومناخ سياسي مغلق، تبدو مسألة تداول السلطة في طاجيكستان بعيدة المنال. لم تشهد البلاد في تاريخها المستقل أي انتقال سلمي للسلطة عبر انتخابات نزيهة أو عبر منافسة حقيقية. بدلاً من ذلك، تُظهر المؤشرات أن النخبة الحاكمة تسعى إلى توريث الحكم من الأب إلى الابن، في انتقال ناعم ومدروس للسلطة ضمن إطار قانوني مُفصّل على المقاس.
هذا النموذج، الذي يعيد إنتاج السلطة بدل تداولها، لا يفتح المجال لتجديد النخب أو تعزيز المشاركة السياسية، بل يرسّخ منطق الدولة السلطوية، التي تضع الاستقرار فوق الديمقراطية، وتستخدم فزاعة الحرب الأهلية القديمة لتبرير استمرار القبضة الأمنية.
طاجيكستان اليوم ليست ديمقراطية تقليدية، ولا ديكتاتورية صريحة، بل نظام هجين يحمل ملامح من الاثنين. تُحكم البلاد من خلال مزيج من الشرعية التاريخية، والخطاب الأمني، والسيطرة الأبوية، حيث تُقدّم الدولة نفسها كحامية للاستقرار في منطقة مضطربة، لكنها تفعل ذلك على حساب الحريات العامة، وحق المواطن في التعبير والتنظيم والمشاركة.
وفي غياب إصلاحات سياسية حقيقية، واستمرار الاعتماد على الوجوه ذاتها، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن لنظام لم يختبر تداول السلطة منذ أكثر من ثلاثين عامًا، أن يضمن استقراره من دون إصلاح؟ وهل تكفي القبضة الأمنية وحدها لتأمين المستقبل، في بلد يغلي تحته جيل جديد لا يعرف من الديمقراطية سوى الاسم؟