في قلب آسيا الوسطى، حيث تتعانق جبال بامير بقممها البيضاء مع مجرى نهر جيحون، تكتب طاجيكستان فصلاً جديدًا في مسيرة التعليم. تتأرجح البلاد بين ماضٍ سوفيتي حمل معه تعليمًا إلزاميًا ومجانيًا ومعدلات أمية شبه معدومة، وحاضرٍ يعاني من آثار الحرب الأهلية والهجرة، ومستقبل تحاول الدولة رسم ملامحه عبر خطط إصلاحية طموحة تواجهها إمكانيات محدودة.
في الحقبة السوفيتية، من عام 1924 وحتى 1991، تمكنت طاجيكستان من القضاء شبه الكامل على الأمية، بفضل نظام تعليمي صارم ومجاني. ورغم ذلك، فإن هذا النظام فرض مناهج أيديولوجية اشتراكية همشت الهوية الثقافية والدينية المحلية. بعد الاستقلال، انزلقت البلاد إلى حرب أهلية طاحنة دمرت جزءًا كبيرًا من البنية التحتية التعليمية وأجبرت آلاف المعلمين على مغادرة البلاد، بينما سعت الدولة في المقابل إلى إعادة الاعتبار للغة الطاجيكية وإدراج الثقافة الفارسية في المناهج المدرسية كجزء من مشروع إعادة بناء الهوية الوطنية.
ورغم محاولات التعافي، تشير الأرقام إلى واقع هش يواجهه قطاع التعليم اليوم. أكثر من ثلاثين في المئة من المعلمين في المناطق الريفية لا يمتلكون مؤهلات كافية، فيما تفتقر نصف المدارس خارج العاصمة دوشنبه إلى خدمات الكهرباء والإنترنت، ما يجعل من التحديث الرقمي حلمًا مؤجلًا. في مؤسسات التعليم العالي، لم تتمكن أي جامعة طاجيكية من دخول التصنيفات العالمية، بينما يهاجر أربعون في المئة من خريجي كليات الطب والهندسة إلى روسيا ودول الخليج، بحثًا عن فرص أفضل.
ولا يقف الخلل عند هذا الحد، فالتعليم الفني، رغم أهميته لسوق العمل المحلي، لا يشكل سوى خمسة عشر في المئة من مجمل النظام التعليمي. في المقابل، تسجل قطاعات كالتكنولوجيا نموًا متسارعًا يتجاوز الثلاثين في المئة، دون أن يقابله تطوير فعلي في المناهج التعليمية لتلبية هذا الطلب المتزايد على المهارات الرقمية.
في السياق الثقافي والديني، يظهر التعليم في طاجيكستان كساحة لصراع مقيد بين الهوية الدينية وسياسات الدولة. منذ عام 2017، مُنع ارتداء الحجاب في المدارس الحكومية في إطار سياسات تهدف إلى منع التطرف، حسب تصريحات رسمية. المعهد الإسلامي في دوشنبه يقدّم تعليمًا دينيًا، لكنه يخضع لإشراف صارم من قبل الدولة، فيما تظل الشراكات التعليمية مع مؤسسات إسلامية مرموقة مثل جامعة الأزهر محدودة الأثر بفعل القيود السياسية.
وضعت الحكومة استراتيجية طويلة الأمد تمتد حتى عام 2030، تتضمن خططًا لبناء مئة مدرسة جديدة في المناطق النائية ورفع جودة التعليم العالي من خلال التعاون مع جامعات أوروبية. لكن هذه الطموحات تصطدم بواقع اقتصادي هش، حيث يعتمد جزء كبير من الميزانية العامة على تحويلات المغتربين، التي تمثل نحو ثلاثين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وعلى الرغم من تحسن بعض مؤشرات التنمية البشرية، مثل انخفاض معدلات وفيات الأطفال، فإن نسبة العاطلين عن العمل بين الشباب تصل إلى عشرين في المئة، في ظل فجوة واضحة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل، خصوصًا في القطاعات الحيوية كالتعدين والزراعة، التي تعاني من نقص في الكفاءات الفنية.
عند هذا المنعطف، يبدو أن التعليم في طاجيكستان لا يواجه أزمة موارد فحسب، بل يقف أمام أسئلة كبرى تتعلق بالهوية والتوجهات المستقبلية. هل يمكن لهذا النظام أن يتحول إلى رافعة للتنمية الوطنية؟ وهل تستطيع الدولة تحويل هجرة العقول إلى عقول تبني الوطن من الداخل؟ هذه الأسئلة لا تزال دون إجابات حاسمة، بينما تستمر طاجيكستان في البحث عن توازن بين تراثها الإسلامي وشراكاتها الدولية، وبين إمكانياتها المحدودة وطموحاتها الواسعة.