1- بين فوضى ما بعد الفرنسيين وميلاد دولة محمد علي.
في زمن يتقلّب فيه الحُكم كما تتقلب الرياح، لم تكن مصر عام 1803م، تعرف الاستقرار، بل كانت ساحة صراع بين جيوش مرتزقة وقوى متنازعة ومصالح دولية تتقاطع فوق ترابها.. وفي خضم تلك الفوضى، صعد رجل إلى السلطة فجأة، وخرج منها جثة هامدة بعد عشرين يومًا فقط. اسمه طاهر باشا، وهو من أولئك الذين خلدهم التاريخ لا لطول حكمهم، بل لغرابة نهايتهم.
2- القاهرة بعد جلاء الفرنسيين
حين انسحب الفرنسيون من مصر عام 1801م، تركوا وراءهم بلادًا منهكة، بلا سلطة واضحة، تتنازعها أطراف عدة: العثمانيون العائدون بقوة السلطان، والإنجليز المتربصون بموقع مصر الإستراتيجي، والمماليك الطامعون في استعادة مجدهم، والجنود الألبان الذين أصبحوا القوة المسلحة الحقيقية في البلاد، يتقدمهم شاب طموح اسمه محمد علي.
في هذا المناخ المأزوم، عُيّن محمد خسرو باشا واليًا عثمانيًا على مصر، لكن سرعان ما اصطدم بالجنود الألبان، فثاروا عليه بقيادة طاهر باشا، أحد ضباطه الألبان، فحاصروه في القلعة، وأجبروه على الفرار.
3- صعود سريع.. ونهاية أكثر سرعة
في 6 مايو 1803م، نصب الألبان طاهر باشا واليًا على مصر، ولكن من دون شرعية سلطانية، ومن دون أي قبول شعبي.
لم يكن طاهر أكثر من واجهة مؤقتة للنفوذ الألباني، الذي كانت مقاليده الفعلية بيد محمد علي، الرجل الذي بدأ بهدوء يمهّد طريقه نحو العرش.
لكن طاهر لم يُحسن الإمساك بالسلطة، واستبدّ بالرأي، وتمادى في فرض الجبايات على الناس، مما أثار السخط الشعبي والعسكري ضده.
وبعد أقل من ثلاثة أسابيع، اجتمع عليه الجند، وثاروا عليه كما ثار هو على سلفه، ثم اقتحم أحدهم عليه مقر حكمه، وقطع رأسه، في مشهد يختزل فوضى تلك المرحلة.
4- ماذا قال الجبرتي؟
المؤرخ المعاصر لتلك الأحداث، عبد الرحمن الجبرتي، يصف طاهر باشا في كتابه عجائب الآثار بأنه:
“جبار لا يفقه في الإدارة، استأثر بالأمر، وجعل همه جمع المال من الرعية، فلما سخط عليه العسكر، دخل عليه أحدهم فقتله، وطرحوا رأسه، وصار جثّة مرمية.”
الجبرتي يرسم مشهدًا بائسًا لمصر في ذلك الوقت: فراغ سياسي، وفساد مالي، وطبقة حاكمة لا تمثل الشعب ولا تحكم باسمه، وإنما تُفرض بالسلاح والمؤامرات.
5- الرافعي: تمهيد لدولة محمد علي
أما المؤرخ الوطني عبد الرحمن الرافعي، فيرى في تلك الأحداث بداية النهاية للنظام العثماني في مصر، وبداية صعود محمد علي، إذ يقول في كتابه تاريخ الحركة القومية:
“كان طاهر باشا أداة مؤقتة في يد الجنود الألبان، لا يملك من الأمر شيئًا، وقد هيّأت فوضى مقتله الأرض لصعود محمد علي إلى السلطة، بفضل ذكائه وتحالفه مع العلماء والشعب.”
6- من عشرين يومًا إلى قرن ونصف من التحول
مقتل طاهر باشا لم يكن نهاية رجل، بل نهاية مرحلة.
ومن رماد تلك الفوضى، برز محمد علي باشا، الذي التقط الخيط، وبدأ بحكم البلاد عام 1805م، بعد تحالف ذكي مع الزعامات الشعبية والعلماء، واستمر نفوذ أسرته حتى منتصف القرن العشرين.
7- هكذا كان طاهر باشا “الوالي العابر”، الذي مرّ على عرش مصر كما تمر غمامة صيف، لكنه كشف بموته عن حقيقة أزمة كانت تختمر، وسرّع من قدوم حاكم غيّرَ وجه مصر لعقود.
————–
يسري الخطيب