ما بين مؤيد ومعارض، تستمر حالة الجدل حول لجوء بعض دول الجوار لقطاع غزة، للإنزال الجوي للمساعدات، من مواد تموينية وغذائية وبعض الأدوية، لإنقاذ المجوعين في القطاع، الأمر الذي يعد البديل الوحيد الذي تسمح به دولة الاحتلال، في ظل الحصار الخانق الذي تفرضه على إدخال المساعدات بريا، ما أدى لمقتل المئات من العجائز والأطفال بسبب شح الغذاء.
إلا أن الأكثر ألما، وقسوة، هو اكتشاف فساد هذه المواد الغذائية التي تم إنزالها عن طريق الجو، إما لفساد المواد المحملة عبر الطائرات من المنبع، أو تعرضها للفساد نتيجة عوامل درجات الحرارة المرتفعة، والبقاء لفترة طويلة بعد إعدادها من أجل البحث عن منفذ أو طريق تصل به إلى المجوعين في القطاع.
وكشفت عدد من الفيدوهات المصورة لإنزال هذه المواد الغذائية عبر الجو إلى غزة، عن فساد أغلبها، وتعرضها للتلف، بمجرد أن تصل في أيدي المتصارعين عليها من الجائعين في غزة، حيث تداول عدد من أهل غزة بعض هذه المنتجات، وتصوير حالتها التي لا تصلح كطعام للحيوانات.
وفي تقارير صحفية كشفت كيف تعامل الآلاف من أهل غزة من الذين تتلوى معدتهم من شدة الجوع، فلا شيء يأكلونه، ففكر كثير منهم وقرر الذهاب لأنقاض بيته المدمر في غزة والبحث عن أي طعام يصبره على تفادي الجوع.
ومع تلاشي أي فرصة لتواجد أي طعام، لجأ إلى الطعام الذي يتم إنزاله جويا، ليحصل على الفتات منه بعد صراع مع المئات من المجوعين أقرانه، ولكنه فوجئ بتلف ما نجح في التقاطه، ليضطر في النهاية لتناوله، إنقاذا لحياته وأطفاله، وليكن مايكون بعدها من المرض أو التسمم.
ما خفي أعظم
إلا أن الأكثر فتكا بأي حديث واقعي يقص حياة المجوعين في غزة، ويكشف ما يتعرضون له من أساطير، لم يعرفها البشر في معاناتهم على اختلاف ألوانهم وبمرور آلاف السنين، أن تتحول بعض الأطعمة إلى معلبات مفخخة.
فبينما كان أحدهم يلف حول ما بقي من منزله ويبحث في مكان المطبخ المدمر عن أي شيء يؤكل، وجد علبة تونة مخبأة فأخرجها والفرح يراقص معدته، وبسرعة جلس إبراهيم في زاوية تخفيه عن أنظار المارة وفتح الغطاء الحديدي، ولم يكن يتوقع أن تتغير حياته بعدها إلى الأبد، فقد انفجرت علبة التونة في يده وتطايرت الشظايا في وجهه وهرول باكياً من المكان وهو ينزف.
وفي المستشفى فقد طفل يدعى إبراهيم أصابع يده اليسرى وتشوه وجهه وأصيبت عينه بشظايا وقد يفقد بصره في أية لحظة، نتيجة هذه العلبة المفخخة، التي أللقى بها جيش الاحتلال كمصيدة جديدة لقتل الباحثين عن الطعام من المجوعين.
يقول الصغير “كنت جائعاً وكل ما أكنت فكر فيه هو الطعام ولم يخطر ببالي أن علبة التونة هذه عبارة عن مخلفات منفجرة تركها الجيش الإسرائيلي على شكل طعام”، مضيفاً “ظننت أن علبة التونة من بقايا مونة بيتنا قبل الحرب، فعندما اندلع القتال غادرنا المنزل ولم نصطحب في نزوحنا أي غذاء، وهذا كل ما دار في مخيلتي، عندما رأيتها اعتقدت أنني قد أسكت جوعي بسمك التونة”.
ولم يكن انفجار علبة التونة المفخخة من وراء الجيش الإسرائيلي قوياً لكن الشظايا كانت كافية لتغيير حياة الطفل وتشويهها، وكذلك لم يكن ذلك العجز الجسدي أفظع ما حدث لإبراهيم وإنما تسببت المخلفات المتفجرة بصدمة نفسية للطفل، ويقول بصوت حزين “كرهت كل شيء حولي، كرهت التونة وكرهت اللعب وكرهت الحرب والجوع”.
إبراهيم لم يعد الطفل الذي يعرفه الجميع يلعب ويجري في زقاق مخيم النزوح، فلا يمكنه الإمساك بقلمه ولا حتى بعبوة المياه المطلوب منه يومياً تعبئتها، وهو مثقل بالعجز والخذلان ولا يطلب إلا فرصة بسيطة للعلاج في مستشفى خارج قطاع غزة يعيد له القدرة على الحياة،
فهو وعلى رغم كل شيء يتطلع إلى مستقبله ويريد أن يحظى بفرصة للتشافي، ويضيف بأمل “أحتاج إلى مساعدة فأنا لا أستسلم وسأظل أحاول حتى أحقق ما يرضي روحي، وقد أصبح مهندساً أعيد بناء مدينتي”.
مئات الضحايا للمعلبات المفخخة
قصة الطفل إبراهيم ليست استثناء، فبحسب صحيفة “اندبندنت” البريطانية، فقد قضى قرابة 300 غزي ضحية مخلفات الجيش الإسرائيلي من متفجرات وقنابل على شكل عبوات طعام لم تنفجر،
ومن بين هؤلاء قتل نحو 90 طفلاً نتيجة العبث بمخلفات تشبه معلبات الطعام، وفي حادثة أخرى وجد صبحي علبة ذرة في منزله شبه المدمر، وعندما حاول فتحها انفجرت فيه وسببت له تشوهاً في الوجه وأفقدته بصره وتطايرت عشرات الشظايا الصغيرة في جسمه فبُترت يده على الفور.
وخضع صبحي للعلاج مدة أسبوعين وخلال المتابعة الطبية تبين أن الشظايا وصلت إلى منطقة الصدر والقصبة الهوائية، لكنه لم يكمل رحلة علاجه فقد توفي بعد فترة وجيزة، ويؤكد العاملون الصحيون أن عبوة الطعام كانت قنبلة تحوي مواد كيماوية قاتلة، ولا يزال والد صبحي يعاني منذ وفاة ابنه ويقول “كان جائعاً ظن أن تلك المعلبات طعام نسيه أحد النازحين بعدما حصل عليه من المساعدات، فاستبشر وقرر تناولها لسد جوعه.
والناس في غزة مستعدون لتناول أي طعام ونحن نحلم بالعودة إلى ما قبل الحرب”، مضيفاً “نفتقد كثيراً من المأكولات التي لم يعد توفيرها ممكناً ونتوق أيضاً إلى تفاصيل الحياة اليومية الاعتيادية، ونتيجة رؤية الغزيين ذويهم يبحثون عن الطعام بأية وسيلة فإنهم لا يترددون في تناول أي طعام، وقد كان ابني ضحية لهذه المعلبات الغذائية المفخخة”.
أما نمر فيعيش بنصف وجه مشوه ويد مبتورة مع مشكلة في النظر، وكل هذه الإعاقات حدثت له عندما انفجرت في يده علبة مفخخة وجدها عقب انسحاب قوات الجيش الإسرائيلي وظن أنها علبة لحم بقري، وعندما فتحها انفجرت فيه،
ويقول “يترك الجيش كثيراً من علب الطعام المفخخة تلك في مناطق مختلفة وبصورة متناثرة لا توحي بأنها متفجرات، وأظن أن الجنود يفعلون ذلك عمداً فهم يعلمون أننا نعيش جوعاً حقيقياً، وكل يوم أشعر بالألم ذاته وكأن الانفجار وقع بالأمس”.
ويقول مدير الإعلام الحكومي إسماعيل الثوابتة إن “الجيش الإسرائيلي يتعمد ترك مخلفات مفخخة داخل منازل المواطنين في القطاع لزيادة أعداد الضحايا، وقد تتسبب مخلفات الجنود التي يتركونها على شكل عبوات طعام في تهديد حياة سكان غزة”،
مضيفاً “يزيد هذا الخطر معاناة أهالي القطاع الذين يعانون الجوع الشديد بسبب منع إسرائيل إدخال أي مواد غذائية إلينا”، ويؤكد أن الجيش الإسرائيلي يستغل حال الجوع التي يعيشها سكان القطاع لتفخيخ بعض العبوات التي تشبه معلبات الطعام وتنفجر بمجرد الإمساك بها ومحاولة فتحها، مما يؤدي إلى إصابة أو مقتل من يقدم على ذلك.
رسائل تحذيرية
من جهته يقول مدير الإعلام في وزارة الصحة محمد الحاج “استقبلنا عدداً من الحالات التي كانت ضحية لانفجارات بفعل هذه المخلفات، وآخرها حال طفل بترت ثلاثة من أطرافه بسبب انفجار علبة فول”، مضيفاً أن “مخلفات الجيش الإسرائيلي فيها صواعق متفجرة ويبدو أن هناك تعمداً لتركها في المكان كطعم للسكان، بخاصة مع قلة المواد الغذائية وبحث السكان عن أي بدائل بمختلف الطرق والأماكن”.
وفي السياق نشر الدفاع المدني في غزة رسائل تحذيرية تنصح بعدم الاقتراب من مخلفات الطعام التي يتركها الجيش الإسرائيلي خلفه، ويقول مسؤول الإمدادات في الدفاع المدني محمد المغير “رصدنا كثيراً من مخلفات الجيش على شكل علب صغيرة متفجرة، وهي خطرة جداً وتنفجر بمجرد فتحها، وقد تسببت في بتر أطراف أطفال”، ليرد الجيش الإسرائيلي على هذه الحوادث بألا علم له عنها.
ويقول المتحدث العسكري أفيخاي أدرعي إنه “يُمنع على الغزيين الاقتراب من الأماكن التي تنشط فيها قواتنا، تلك المناطق ساحة قتال خطرة، ولا تفيد مراجعة الجيش عن وجود مخلفات مفخخة على هيئة معلبات طعام”.