عالميّـة السّـرد: دراسات في السّرد العربيّ الحديث

ضم كتاب “عالميّـة السّـرد: دراسات في السّرد العربيّ الحديث” للباحث د.زهير محمود عبيدات مجموعة من الدراسات التي ترى أنّ مفهوم “الكون” ومفهوم “العالم” متساويان في الدلالة والمعنى، على ما بينهما من تباينات، ويثير الكاتب سؤالاً حول: هل يمكن القول بـِ”عالميّة/ كونيّة” السرد؟ مجيباً أن ذلك ممكن من وجوه كثيرة، لأنّ الفعل السرديّ يتّصل بالوجود البشريّ عامّة، والبشر مفطورون على الممارسة السرديّة، وهذا الفعل زمانيّ لا يتم إلا في زمان وفي مكان واقعي أو ذهني، ولا يتحقّق إلا بفعلِ فاعلٍ يمتلك أداةَ تعبير، هي اللغة.
ويشير الباحث في كتابه الصادر عن الآن ناشرون 2025، في زهاء 200 صفحة، إلى أن العمليّة السرديّة تتوسّل بأساليب وتقنيّات مشتركة بين البشر، من مثل استخدام أساليب السرد الزمانيّة، كالمفارقة الزمانيّة التي تمكّن من التنقّل بين أقطاب الزمان في الماضي والحاضر والمستقبل، وكالوصف والحوار وحكي الحكاية والحلم وغير ذلك من أساليب استخدمها البشر ويستخدمونها في سرديّاتهم وفي أفعالهم السرديّة، ويوضح الباحث عبيدات أن السرد خطابٌ عالميّ/ كونيّ، بمعنى أنّه متصل بوجود البشر، وهم لا يستغنون عنه، وهو يقوم على عناصر واحدة، وأساليب سرد واحدة، وتقنيّات واحدة، وأنّه إرثٌ إنسانيّ نجد تجلياته في آدابهم الفصيحة والشعبيّة في القديم والحاضر، مبيناً أن الأمر أوضح في ميدان الرواية في التمثيل على ما قدّمت، فالرواية المعاصرة في العالم/الكون لا تختلف كثيراً في عناصرها وفي أساليبها وفي تقنيّاتها، دون إغفال ما يتصل بالخصوصيّات والهويّات والمحدّدات المتعلّقة بالشعوب والمجتمعات والحضارات والثقافات وغيرها.
ويؤكد الباحث أن هناك عناصر توافرت في هذا العصر الرقمي عزّزت من كونيّة السرد والرواية، وهي استخدام وسائل التكنولوجيا المختلفة، لاسيّما وسائل التواصل الإلكترونيّ، وهي أيضاً وسائل نشر تعبّر عن السرديّة البشريّة الكونيّة التي تهمّ البشر بغض النظر عن الجنس والعرق واللون واللغة والزمان والمكان، وتأسيساً على ذلك كما يقول “فإننا لا نجد فروقاً جوهريّة في عناصر بنية الرواية الفنيّة في العالم/ الكون، ولا في الأركان التي تقوم عليها وبها، ولا في الأساليب والتقنيّات التي تستخدمها، وفي بعض محمولاتها التي تتصل بالبشر عموماً، فالرواية الروسيّة والأوروبيّة والهنديّة والصينيّة والكوريّة واليابانيّة والعربيّة تقوم على العناصر ذاتها، وتستخدم الأساليب نفسها”..
وتضمن الكتاب أربعة فصول ارتبط كل واحد منها بمرحلةٍ معيّنة من الزمان، فحمل الفصل الأول عنوان “كورونا في السرد العربي الحديث”، بينما جاء الثاني بعنوان “الخطاب الكورونياليّ: مقاربة طباقيّة”، وهذان الفصلان تناولا جائحة كورونا، وكما يشير الباحث عبيدات فقد أنجزهما في أثناء الجائحة وما بعدها بقليل، أما الفصل الثالث فكان بعنوان “الوباء الوجداني في نموذج من الرواية العربية”، والفصل الرابع بعنوان “الرواية التفاعليّة” وفيه يتوقف الكاتب عند توظيف التكنولوجيا والرقميّات في خدمة العمليّة الإبداعيّة.
وأوضح عبيدات في الفصل الأول من الكتاب دور الأوبئة في التجارب الاستعمارية وكيف تحوّلت الأوبئة إلى أسلحة فتّاكة في الصراعات والحروب، ووقف عند دور الأوبئة في التاريخ العربي والإسلامي وانعكاساتها في السرد العربي في تراثنا وفي الأدب العربي الحديث، كما وقف عند قدرة فيروس كورونا على تشكيل حقبةٍ تاريخيّةٍ جديدة.
أمّا الفصل الثاني الذي فتناول عبيدات بالتحليل كتاب عزمي بشارة: “جَبْرُ الخواطر في زمن المخاطر: ماذا يعلّمنا الوباء؟”، وأوضح فيه الرؤى الفكريّة والفلسفيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والدينيّة وغيرها التي تُقرأ جائحة كورونا في ضوئها، مشيراً إلى أن الخطاب الكورونياليّ خطابٌ نقديّ تفكيكيّ لكثيرٍ من المركزيّات.
وركز الفصل الثالث على أثر المواقف الوجدانيّة في صناعة التاريخ السياسي وتوجيه أحداث الرواية بما لا يقلّ عن دور الأفكار السياسيّة والأيدولوجيّة، فقد كان للمشاعر والعواطف والأحاسيس دور كبير في توجيه أحداث الرواية، وكان الدور الأكبر للحقد والكره الذي اتّسع ليشمل الكره الطبقيّ والحقد الاجتماعيّ والإقصاء الدينيّ، وهذه المشاعر تهمّ البشر في الكون كلّه ولا تقتصر على نوع دون نوع آخر، ولا تقلّ خطراً عن فيروس كورونا، وشدد الباحث في هذا الفصل على دور الكراهيّة في صناعة العنف، وأنّ العلاقة بينهما علاقة عضويّة بنيويّة، من خلال نموذجٍ روائيّ من أدب ما بعد الربيع العربيّ.
أمّا الفصل الرابع والأخير فتناول فيه عبيدات الرواية والتكنولوجيا الإلكترونيّة، وهي تقنيّة عالميّة كونيّة تتصل بالبشر جميعاً، يستخدمونها في مناحي حياتهم المختلفة وفي تواصلهم اليومي وفي التعبير عن مواقفهم وأفكارهم وقضاياهم المشتركة وسرديّاتهم، وهكذا، فإنّ أداة التواصل الإلكترونيّة عالميّةٌ/ كونيّةٌ تصلح للتعبير عن قضايا تتعلّق بحياة البشر جميعاً، فقد عبّرت هذه الرواية باستخدام التكنولوجيا عن قضايا بشريّة مشتركة، وإن كان منطلقها من بيئة محليّة، وقد انطلق هذا الفصل من فرضيّة أنّ الرواية جسرٌ للعبور ونشر القيم الإنسانية، وأنّ “الرواية الرقميّة” بشكل خاصّ، مؤهّلة للنهوض بهذا الدور، لما تقوم عليه من إمكانات فنيّة وما يتهيّأ لها من فرص.
يذكر أن د.زهير عبيدات أستاذ الدراسات السرديّة والثقافيّة بالجامعة الهاشميّة، الأردن، وله كتب ودراسات علميّة محكّمة متخصّصة منشورة، منها: “الثقافـة الوطنية” (بالاشتراك، 2005/ 2006)، و”صورة المدينة في الشعر العربي الحديث” (2006)، و”رواية الأجيال في السرد العربي الحديث” (2010)، و”سلطة التاريخ: دراسات في الرواية العربيّة الحديثة” (2012)، و”منطق الخطاب.. المركز والتابع: قراءة في السرد الكولونياليّ” (2019).