في كتابه الخالد “عالم الأمس: مذكرات أوروبي”، لا يكتفي الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ بسرد سيرة حياته، بل يكتب مرثية ثقافية وإنسانية لحضارة أوروبية ظنّها خالدة، قبل أن تمزّقها الحروب والأيديولوجيات المتطرّفة. هذا الكتاب ليس سيرة ذاتية تقليدية، بل شهادة حيّة على انهيار القيم، وفقدان الإيمان بالإنسان، والوقوف المذهول أمام سقوط العقل في عصر بدا وكأنه يُبشر بالتنوير ثم انتهى إلى الخراب.
ورغم أن الكتاب يدور حول أوروبا، فإنه لا يخاطب الأوروبيين وحدهم؛ بل يمسّ وجدان أي إنسان عرف المنفى، أو خَبِرَ تبدّل الزمن، أو رأى وطنه يتحول إلى شيء لا يعرفه.
“لقد توقفتُ عن الشعور بأن لي وطناً منذ أن رأيت أعلام الكراهية ترفرف فوق كل الحدود.”
بهذه الكلمات المؤلمة يصف زفايغ شعوره في منفاه، حين كتب هذا العمل في البرازيل قبيل انتحاره عام 1942، بعدما فقد الأمل في مستقبل الإنسانية.
شهادة لا مجرد سيرة
يأخذنا زفايغ، بأسلوبه الرقيق والإنساني، إلى فيينا أواخر القرن التاسع عشر، حين كانت عاصمة للفن والموسيقى والحرية الفكرية. ويروي رحلته داخل عالم الثقافة الأوروبية الرفيع، حيث التقى فلاسفة وأدباء ومفكرين كبار، مثل فرويد وتولستوي ورومان رولان، ويصف كيف كانت الثقافة والأدب والفن تُشكّل وجدان الشعوب.
لكن العالم الجميل بدأ يتداعى مع الحرب العالمية الأولى، وتحوّل تدريجًا إلى كابوس مع صعود النازية والفاشية، حتى جاء الانهيار الكامل في الحرب الثانية.
“لم يمت أحد في الحرب العالمية الأولى، كما مات الإيمان بالإنسان.”
هذا الكتاب، إذن، ليس مجرد رصد لأحداث عاشها المؤلف، بل هو رثاء للحضارة الإنسانية حين تُسحق تحت أقدام الحقد والجشع والعنصرية.
إنسانية تتجاوز الجغرافيا
على خلاف كثير من كتب السير الذاتية التي تنغلق في تجربة الكاتب، فإن زفايغ يحوّل مأساته الخاصة إلى تجربة كونية، تتردد أصداؤها اليوم في مخاوف ملايين البشر حول العالم.
“رأيت العالم من حولي يتحول إلى شيء لا أعرفه.. وأنا الذي كنت أؤمن بالتقدم والعقل، وقفتُ عاجزًا أمام الكراهية وهي تصعد إلى المسرح.”
إنه كتاب لكل من عرف معنى الخيبة، أو مرارة الغربة، أو الألم من تغيّر الأوطان وانطفاء القيم.
عن المؤلف: المثقف الذي انتحر يأسًا من العالم
وُلد ستيفان زفايغ عام 1881 في فيينا لعائلة يهودية، وكان من أبرز كتّاب عصره وأكثرهم إنسانية وتأثيرًا. كتب في الرواية والمسرح والسيرة، وترجم أعمال كبار الأدباء، وكان يؤمن بوحدة أوروبا الثقافية والروحية. غير أن صعود النازية وانهيار الحضارة الأوروبية جعله يفقد الأمل تمامًا، فانتحر مع زوجته في منفاه بالبرازيل عام 1942، بعد أن كتب وصيته الأدبية الأخيرة: “عالم الأمس”.
في سياق كتب السيرة الذاتية
ما يجعل “عالم الأمس” فريدًا، أنه يتجاوز السيرة الفردية إلى رواية جماعية لعصر بأكمله. وعلى خلاف كتب مثل “الأيام” لطه حسين التي تروي كفاح الذات في مواجهة المجتمع، فإن زفايغ يروي سقوط الذات مع المجتمع. أما مقارنة بسيرة سارتر “الكلمات”، فزفايغ أكثر عذوبة، وأشد التصاقًا بالناس والمشاعر العامة.
وبينما تُكتب معظم السير لتمجيد الذات أو التباهي بالمنجز، فإن “عالم الأمس” كُتب بروح حزينة، متأملة، ترى المجد كذكرى بعيدة لا تعود.
ولذلك فإن “عالم الأمس” لا يُقرأ للتعرّف على كاتب فقط، بل لفهم عالمٍ انقرض، وربما لتحذير العالم الذي نعيشه الآن من أن يسلك الطريق نفسه.