عامر شماخ يكتب: الإسراءُ والمعراجُ.. بشارةُ النَّصرِ رغمَ الْحصارَ والزَّلزلة
كانت حادثة الإسراء والمعراج فرزًا للصفِّ المسلم الذي انقسم عقبها إلى حزبين، إن جازت التسمية؛ حزب أبى بكر وضربائه من المؤمنين الصالحين الذين صدَّقوا النبي وآمنوا بروايته، وحزب المنشقين وأتباعهم إلى يومنا هذا، من المنافقين، الذين طاشوا عند سماع الخبر، وشكّكوا في الحادثة برمتها؛ لقلة إيمانهم ولضيق أفقهم فلم يميزوا بين نبيٍّ وبشرىٍّ، وبين واقع ومعجزة، فارتدوا عن الإسلام ولحقوا بأبي جهل والملأ من قومه.
ورغم ما ساقه النبي ﷺ لهؤلاء المنكرين من أدلة؛ كوصف بيت المقدس الذي لم يزره من قبل، والعير التي بالروحاء، والعير الثانية التي لفلان، والعير الثالثة التي بالأبواء -فإنه غرّهم عقلهم القاصر فلم يتعظوا بما اتعظ به الصدِّيق الذي جاءوه فقالوا: هل إلى صاحبك! يزعم أنه أُسرى به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة.
إن معجزات السماء ليست قصرًا على نبينا ﷺ؛ فما من نبي أو رسول إلا وله برهان على قومه، كما لم يكن نبيُنا بدعًا في تأييد الله له ودعمه بالمعجزات الباثَّة لليقين في قلبه؛ لقد خاطب إبراهيم من قبل، قال جل شأنه: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟) قال إبراهيم: (بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، قال تعالى: (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة: 260]، ومثله موسى لما قال له: (لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى) [طه: 23]، وبالمثل قال لمحمد ﷺ: (لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء: 1]، (لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) [النجم: 18].
جاءت تلك الرحلة الميمونة إذًا إيناسًا وتطمينًا للنفس التي تتابعت عليها الخطوب، وأنهكتها الحوادث، واستوطنها الحزن؛ ليرى ما يسعده ويقرُّ فؤاده؛ معجزة تلو أخرى، ومباهج تستعصى على فهم البشر لولا أن الله تعالى أراه إياها بعينه جلَّ وعزَّ، فإذا هو يودِّع اليأس وينهض لما بعد تلك الليلة وما أثقله من حِمْلٍ، وإن صلاته بالأنبياء والرسل كانت الجائزة الكبرى والميزة العظمى التي أعطته لقب «خاتم الأنبياء»، وجعلت رسالته هي «الرسالة الخاتمة» بعدما نسخت ما قبلها من شرائع وسُنن.
لقد كانت الإسراء والمعراج توطئة للهجرة وما بعدها؛ ما يتطلب يقينًا لا يتزحزح، ونفسًا تستشرف الفرج وتأبى الانكسار، ويدرك قارئ التاريخ هذا اليقين وذلك الفرج في سيرة الرسول وسَيْرِهِ عقب هذه الليلة؛ ففي ليلة الهجرة يتصرف تصرف الواثق الموقن حتى يخرج من بين أيدى القوم فلم ينتبهوا إليه، بين يديه شعار (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30]، وفى الغار يجلس مطمئنًا يصبِّر صاحبه الذى جزع لرؤية المشركين فقال لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال ﷺ: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن -أي لا تخف- إن الله معنا».
واستشعار هذه المعية هو ما يجب أن يكون ديدن كل مؤمن؛ فإنه عقب كل شدة يكون الفرج، وعقب كل محنة تكون المنحة، وإن مع العسر يسرًا، جعله الله ملازمًا له فلا يفارقه؛ دليل قُرب والتصاق (هي شدةٌ يأتي السرور عقيبها… وأسًى يبشِّر بالسرور العاجل)، (اصبر قليلًا فبعد العسر تيسيرٌ… وكلُّ أمرٍ له وقت وتدبير)، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء: 227].
وفى حين كان المنافقون في الخندق يقولون ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا، كان الواثق بربه يبشِّر المؤمنين بما سيجنونه من ثمار الصبر والتضحية، ولم يرها؛ إذ عندما اعترضت الصحابة صخرة وهم يحفرون، ضربها الرسول ثلاث ضربات فتفتتت، قال إثر الضربة الأولى: (الله أكبر، أُعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة، ثم ضربها الثانية فقال: الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض، ثم ضرب الثالثة، وقال: الله أكبر، أُعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة).. وقد تحققت هذه البشارات جميعًا بعد أعوام قليلة، رغم أجواء الحصار والزلزلة التي قيلت فيها.