امتلك الطاغية آلة إعلامية جبارة، بعد قيامه بتأميمها لصالحه، فباتت تصبُّ الأكاذيب من طرف واحد في آذان العامة صبًّا، وتعدهم وتمنّيهم، حتى إذا وقعت الواقعة أفاق الناس من غفلتهم وعاد إليهم الوعي..
لقد اكتشفوا أن هذا الدّعيَّ الذي يدغدغ عواطفهم برنين الوطنية إن هو إلا عميل خائن، وعسكري خائب، وطاغية سفاح، لا يعمل لصالح بلده، إنما يعمل لتحقيق حلم خاص بأن يكون (أتاتورك العرب)، فسار على درب هذا العلماني القح شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، محاربًا دين الله، مشككًا في ثوابت الأمة وقيمها.
لقد انهزم الجيش الذي استأسد على شعبه في الحروب التي خاضها جميعًا؛ انهزم في حرب عام 1956 هزيمة منكرة، وفى حرب اليمن التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل في عام 1962 وقُتل خلالها (20 ألف) مصري، ثم الهزيمة التاريخية في عام 1967 التي لم تزد على ست ساعات دمّرت إسرائيل أثناءها (17) مطارًا كانت تربض بها معظم قواتنا الجوية، واحتلت شبه جزيرة سيناء، وإشفاقًا على قواتهم توقف الصهاينة قريبًا من القاهرة، فعلوا كل هذا في حين كان الأشاوس يسكرون مع الراقصات في كباريهات شارع الهرم.
على خطى (أتاتورك) سار (عبد الناصر)، فكان أداة حرب على الإسلام وأهله، في الداخل والخارج، فكرر التنكيل بالإخوان المسلمين، صوت الإسلام المسموع، مرة أخرى في عام 1965، فاعتقل (34) ألفًا منهم، بينهم (450) امرأة، سامهم سوء العذاب، وعلّق ثلاثة منهم على أعواد المشانق، منهم المفكر والأديب الكبير (سيد قطب)..
وهو من ألغى المحاكم الشرعية، وسطا على الأزهر، وجعل منصب شيخه بالتعيين، وأطلق نظامه لبثِّ الفحش والفساد الخلقي في المجتمع، وسخر من رموز الإسلام، واعتقل العلماء الصادحين بالحق وتعمّد إهانتهم بكل سُبل الإهانة، ورعى الفكر الشيوعي المعادي للدين. وفى الخارج كان ولاؤه لكل من يحارب الإسلام، فما رُئي يومًا ينتصر لقضية من قضايا المسلمين.
أحدث هذا الانقلاب الذي حسمه لصالحهم ضباط شبان جهلة لا يملكون تصورًا أيديولوجيًّا أو فلسفة معينة لبناء دولة أحدث خللاً في التركيبة الاجتماعية المصرية، وخلق مجتمعًا مشوهًا مذعورًا؛ لما تأسس عليه من التآمر والترويع، والخداع والتزوير، وقد أوقف نهضته الحضارية بعدما أمّم مؤسسات دولته..
وفى هذا يقول اللواء (محمد نجيب): (كانت هناك أنّات ضحايا الثورة الذين خرجوا من السجون والمعتقلات ضحايا القهر والتلفيق والتعذيب، وحتى الذين لم يدخلوا السجون ولم يجربوا المعتقلات ولم يذوقوا التعذيب والهوان كانوا يشعرون بالخوف، ويتحسبون الخطى والكلمات، وعرفت ساعتها كم كانت جريمة الثورة في حق الإنسان المصري بشعة).
ولقد تم استنساخ هذه التجربة الكارثية في سوريا والعراق واليمن وليبيا وتونس والسودان والجزائر والصومال؛ حيث دُجِّنتْ الجيوش، وجُففت صفوفها من الملتزمين دينيًّا لحساب الفساد والميوعة والتحلل الخلقي؛ ليخلو لهم الجو لتنفيذ المخططات الموجودة فقط في رأس الزعيم.
كانت هذه العصابة التي استولت على حكم مصر بقوة السلاح سببًا في تأخرها ونكبتها إلى الآن؛ فقد تسلّمت مصر واسمها (مملكة مصر والسودان) ويقع قطاع غزة تحت إدارتها، وهلك زعيمها وقد فقدت غزة والسودان وشبه جزيرة سيناء، وتركوا إرثًا ضخمًا من ثقافة الاستبداد، ومزيدًا من الفقر والعوز وصناعة الأوهام، وضجة إعلامية فارغة، وانهيارًا في القيم والأخلاق..
وقد تبرأ منهم زعيمهم (محمد نجيب) حين قال: (ولا أريد أن أنسب لنفسي ما هو ليس لي، ولكن الحقيقة تقتضي أن أقول إنني أول من أطلق عبارة «الضباط الأحرار» على التنظيم الذى أسسه جمال عبد الناصر، وأنا الآن أعتذر عن هذه التسمية؛ لأنها لم تكن اسمًا على مسمى، فهؤلاء لم يكونوا أحرارًا إنما كانوا أشرارًا، وكان أغلبهم كما اكتشفت فيما بعدُ من المنحرفين أخلاقيًّا واجتماعيًّا).
