مقالات

عامر شماخ يكتب: السودان.. بلد الانقلابات العسكرية [1/ 2]

الناظر إلى «السودان» الآن يحزن لهذا البلد الشقيق، الذي اختصّه الله بميزات عديدة وخيرات وفيرة، فضيّعه العسكر، وفرّطوا في أراضيه، وأفقروا بنيه،

وجعلوهم –وهم الأصلاء الكرام- لاجئين في دول الجوار، لحروبٍ أشعلوها لمصالح شخصية وأجندات خارجية، ولولا هذا البلاء لظلَّ «السودان» سلة غذاء العالم كما كان طوال عهوده الزاهرة..

 تعرّض «السودان» لـ(20) محاولة انقلابية، نجح منها ستة فقط، كان أكثرها تأثيرًا هو انقلاب «عبّود»، وهو أول انقلاب ناجح في البلد بعد استقلاله، والذي سنتناوله في السطور التالية بمناسبة ذكراه، أما الثاني فهو انقلاب «جعفر نميري»، الذي وقع يوم الأحد 25 مايو عام 1969.. وهما اللذان شرعنا الاستبداد، وارتكبا الجرائم والموبقات، وضيّعا البلاد والعباد.

انقلاب عبود بعد استقلال «السودان»

وقع (انقلاب عبود) في يوم الإثنين 17 من نوفمبر عام 1958، أي بعد استقلال «السودان» بعامين اثنين، قام به الفريق (إبراهيم عبّود) ضد حكومة منتخبة مكونة من ائتلاف حزبي «الأمة» و«الاتحادي الديمقراطي»، أكبر حزبين في البلاد،

وكان «إسماعيل الأزهري» هو من يترأس مجلس السيادة وقتها، و«عبد الله خليل» رئيسًا للوزراء؛ حيث تسلّم «عبود» السلطة من الحكومة،

ثم أوقف العمل بالدستور، وحلّ البرلمان، ومنع العمل الحزبي، وترأس «السودان» لستِ سنواتٍ حتى أطاحت به انتفاضة شعبية عام 1964.

وهذا الانقلاب هو أول محاولة انقلابية عسكرية ناجحة في السودان، فتحت الباب أمام محاولات أخرى عديدة بلغت (19) انقلابًا، نجح بعضها وأُحبط الآخر،

وكانت قد سبقتها محاولة فاشلة عام 1957 قادها مجموعة من ضباط الجيش بقيادة (إسماعيل كبيدة) ضد أول حكومة وطنية ديمقراطية بعد الاستقلال برئاسة «إسماعيل الأزهري»؛

حيث تم إحباط المحاولة في مراحلها الأخيرة.

عبود يلتحق بالجيش المصري

تخرّج «عبود» في البداية في كلية «جوردون» المدنية،

ثم التحق بالمدرسة الحربية وتخرّج منها عام 1918 مهندسًا عسكريًّا؛

ليلتحق بالجيش المصري حيث لم يكن الجيش السوداني قد تشكّل بعدُ،

نال «عبّود» رتبة أميرالاي في عام 1951 وعُين في عام 1954 أركان حرب قوة الدفاع ثم نائبًا للقائد العام، فقائدًا عامًّا للقوات المسلحة السودانية.

تأثّر «عبود» وشركاؤه في الحركة بانقلاب عسكر مصر عام 1952،

وزار بعضهم القاهرة فعادوا مصمّمين على فكرة استيلاء ضباط الجيش على السلطة في «السودان» كما فعلها الضباط المصريون.

أدّى عدم وجود دستور جديد بعد الاستقلال إلى استمرار حُكم البلاد من خلال دستور الحكم الذاتي للإدارة البريطانية الصادر عام 1953 ولكن مع بعض التعديلات الطفيفة،

إضافة إلى ذلك أدّت المشكلات الاقتصادية وعجز الحكومة عن إيجاد حلول لها إلى مزيد من عدم الاستقرار في البلاد،

وقد فشلت الأحزاب السياسية، المختلفة فيما بينها بشكل كبير، في إيجاد حل دستوري لحكم البلاد،

أو إيجاد مخرج للمشكلات الاقتصادية الطاحنة، كما لم تتصدّ الحكومات لمشكلة التمرد في الجنوب والتي تفاقمت بشكل بات يهدد وحدة السودان.

وقد رأى بعض السياسيين وقادة الأحزاب ضرورة تدخل الجيش لمنع التناحر الحزبي وللوصول إلى حلول لتلك الأزمات المستعصية.

 

كان رئيس الوزراء في ذلك الوقت «عبد الله خليل»، وهو عسكري قديم يحمل رتبة أميرالاي أيضًا،

أحد المتحمسين لتسليم السلطة للجيش، فسهّل المهمة للانقلابيين،

وسوّغ لهم الإطاحة بحكومة وطنية وليدة يؤمّل السودانيون فيها خيرًا.

واغتنم «عبّود» الفرصة فأسرع بنشر وحدات الجيش في العاصمة الخرطوم في ساعة مبكرة من صباح يوم الإثنين 17 من نوفمبر عام 1958،

قامت تلك القوات بمحاصرة القصر الجمهوري ومبنى البرلمان والمباني الحكومية، وأحكمت قبضتها على الطرق الرئيسة وجسور العاصمة،

ثم بدأت الإذاعة ببثّ الأناشيد العسكرية لتهيئة الرأي العام. ثم لم تمض ساعات حتى سيطرت القوات على كامل العاصمة دون أية مواجهة.

إضفاء الشرعية على الانقلاب

ولإضفاء الشرعية على الانقلاب وإظهاره بمظهر المنقذ الوطني للبلاد؛ جاء البيان الأول عبر الإذاعة في تمام السابعة والنصف من صباح ذلك اليوم،

والذي انتقد سياسة الحكومات المدنية السابقة، متهمًا إياها بالفساد والفوضى والقصور في تلبية تطلعات المواطنين، ومما جاء فيه:

 (كلكم يعرف ويدرك ما وصلت إليه البلاد من اضطراب وفوضى.

وإننا إذ نقوم بهذا التغيير لا نرجو من ذلك نفعًا ولا كسبًا، ولا نضمر لأحد عداءً، ولا نحمل حقدًا.

ولذا أطلب من الجميع أن يلزموا السكينة والهدوء، كل يقوم بعمله بإخلاص تام للدولة.

كان الجيش يراقبُ أملًا في أن ينصلح الحال، وتتغير الأوضاع إلى ما هو أحسن،

ولكن وصل الحال إلى مرحلة لم يعد فيها رجال الجيش قادرين على التحمّل والسكوت،

لم يكن أمام القوات المسلحة غير التقدم وتسلّم زمام الأمر لتصحيح الأوضاع ووضع حد للفوضى، وإعادة الأمن والنظام).

 والبيان كما قرأنا نسخة مكررة من بيانات الانقلابات العسكرية العربية التي سبقت هذا الانقلاب،

والتي إذا حدّثت كذبت، وإذا وعدت أخلفت، وإذا خاصمت فجرت.

عامر شماخ

كاتب صحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى