عامر شماخ يكتب: السودان.. بلد الانقلابات العسكرية [2/ 2]
وجاء هذا الانقلاب حلقة ضمن سلسلة من الانقلابات العسكرية العربية لتنفيذ السياسات الأمريكية في المنطقة،
والرامية إلى استبدال الأنظمة العسكرية بالأنظمة المدنية التقليدية التي تقف ديمقراطيتُها حائلًا دون تنفيذ الأجندات الغربية خصوصًا الأمريكية،
فأعلن «عبّود» في مستهل شهر ديسمبر من عام 1958 قبول مشاريعها في السودان..
بل بعد أسبوعين من الانقلاب وافق على قبول المعونة الأمريكية التي كان البرلمان السابق قد عارضها ووضع شروطًا صعبة لقبولها،
كما رفضها رئيس الوزراء السابق «إسماعيل الأزهري» وطائفة من الأحزاب السياسية.
إذ في 30 من نوفمبر عام 1958 أصدر مجلس الوزراء بيانًا قال فيه إن لجنة وزارية قررت قبول المساعدات الأمريكية التي كانت عُرضت على «السودان» قبل الانقلاب،
ثم أكدت هذه اللجنة فيما بعدُ أنه لا يوجد شيء في المعونة يحدُّ من أو يؤثر على استقلال وسيادة السودان.
سلك النظام الانقلابي أساليب قمعية قضت على أي نبتة ديمقراطية ظهرت في البلاد خلال فترة ما بعد الاستقلال؛ بتكميم الأفواه، ومنع الحياة السياسية التقليدية، بحلّ جميع الأحزاب،
ومنع التجمّعات والمواكب والمظاهرات، ووقف الصحف حتى يصدر أمرٌ بذلك من وزير الداخلية،
واتخاذ سياسات قسرية فاقمت من أزمة الجنوب وزادت رقعة الحرب، حتى هرب الكثير من القادة الجنوبيين إلى خارج السودان،
الذين قرروا تأسيس حركات مسلحة بدأت عملياتها في عام 1963 بمهاجمة أهداف عسكرية للجيش السوداني.
وقد أدى كل ذلك إلى مزيد من الانهيار الاقتصادي، وعانى المواطنون من التضخم وانخفاض الدخول بعد انهيار سعر القطن؛
ما اضطر النظام إلى فرض مزيد من الضرائب خصوصًا على الخريجين ورجال الأعمال.
محاولات انقلابية عديدة
بخلاف الانتفاضات الشعبية التي تصدت لهذا الانقلاب حتى أنهته عام 1964،
جرت أكثر من محاولة انقلابية ضده من داخل الجيش لكن لم يُكتب لها النجاح جميعًا،
كان أشهرها انقلاب «اللواء أحمد عبد الوهاب» و«محيى الدين أحمد عبد الله» و«عبد الرحيم شنان»، الذي جرى عام 1960،
وبدلًا من سجن قادته أو إعدامهم كما هي العادة في الأنظمة العسكرية، تم استيعابهم في الحكومة.
وفي عام 1963 وقع انقلاب مجموعة «الرشيد الطاهر بكر»، و«علي حامد»، وقد تم إعدام خمسة من الضباط وسجن آخرين بمن فيهم مدبّر الانقلاب «الرشيد الطاهر».
أما الانقلاب الثالث فكان لمجموعة من صغار الضباط ممن تسمَّوا باسم «مجموعة الضباط الأحرار»،
وكان من بينهم المقدم جعفر نميري وعدد من طلبة الكلية الحربية، وفشل هذا الانقلاب أيضًا وتم إبعاد ضباطه إلى مواقع بعيدة عن العاصمة الخرطوم.
مع زيادة عمليات القمع الداخلي والانهيار الاقتصادي وتصاعد حدة الحرب في الجنوب، ارتفعت درجة السخط الشعبي على النظام،
فاندلعت انتفاضة جماهيرية في يوم 21 أكتوبر عام 1964 أطاحت بحكم «إبراهيم عبود» وسلّمت السلطة إلى حكومة انتقالية برئاسة «سر الختم الخليفة»،
التي وضعت المشكلات التي خلّفها النظام الانقلابي على رأس أولوياتها.
لقد نجحت أحزاب المعارضة في نهاية المطاف في استعادة الديمقراطية، فقدّم «عبود» استقالته،
وحلّ المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتشكّلت حكومة مؤقتة تعمل بموجب دستور البلاد المؤقت الصادر عام 1956.
اقرأ أيضًا:
السودان.. بلد الانقلابات العسكرية [1/ 2] |
أنهت انتفاضة أكتوبر عام 1964 هذا الانقلاب لكن لم تنته دروسه بعدُ؛ إذ انقضى من عمر «السودان» ست سنوات من الغدر والخديعة والقمع بعد انقضاض العسكر على الحكم فيها،
وككل الانقلابيين خدعوا الشعب في بيانهم الأول بكلمات معسولة وعهود برّاقة،
لكن اتضح أن كل هذا زبد قد ذهب جفاء ولم يبق للمواطن إلا الفقر والعوز وسوء الحال والمآل.
العصابة أضاعت جهاد السنين
لم يكد يمر سوى عامين على تحرر الشعب وحصوله على استقلاله وحكم نفسه بنفسه حتى باغتته تلك العصابة فأضاعت جهاد السنين في ساعة من نهار،
ذهب المحتل الغريب وجاء المستبد القريب، جاء من أفسد الصالح، وفرّق المجتمِع، وخرّب العامر،
وبدلًا من أن ينصرفوا إلى ما خُلقوا له راحوا يوزّعون على أنفسهم مناصب المدنيين ووظائفهم وقوت الشعب ومستحقاته.
لقد استنّ «عبود» بهذا الانقلاب سُنة سيئة، فكان جديرًا بأن يتحمّل وزر كل انقلاب عسكري وقع ويقع في السودان؛
إذ هو أول من شرعن تلك الجريمة الإنسانية في بلده، والتي صارت وظيفة وسبوبة لجيوش المنطقة،
ولا أدلّ على ذلك من تلك المحاولات الانقلابية ضد «عبود» نفسه من قِبَل ضباط صغار، لا لشيء إلا للاستيلاء على السلطة،
وعن طريقها يسطون على المناصب والرياسات، ويتصدرون القيادة والواجهات، ويستولون على المال العام وينهبون مقدرات البلاد.