تمثّل قيمُ المواطنة وحقوقها النظرية أفضل ما وصل إليه الفكر البشرى في مجال الحريات وحقوق الإنسان؛ حيث أعطت للمواطن حقوقًا تجعله ملكًا متوّجًا. وقد أُحيطت تلك الحقوق بضمانات نظرية ترقى بها إلى درجة القدسية.. فهل تحقق شيء حتى الآن من قوانين تلك النظرية البرّاقة على أرض الواقع؟!
فى الحقيقة لم تغيّر تلك النظرية من الواقع شيئًا؛ رغم ما صاحبها من دعاية وتجميل، وهذا يؤكد أن القوانين وحدها لا تكفي لإحداث تغيير في الدول والشعوب.. وبعد سنين من التنادي بقيم المواطنة المتمثلة في الحرية والمساواة والمشاركة والعدالة الاجتماعية، لا يستطيع أحد الادّعاء بأن النظرية خرجت إلى حيز التنفيذ، بل لا نبالغ إذا قلنا إنها مجرد مواد وفقرات وضعت في دساتير بعض الدول ولا زالت حبرًا على ورق.
إن المؤشر الوحيد لقياس صحة ما نقول، هو أن نعيد النظر في قوانين تلك النظرية، ثم نقارنها بالواقع، وسوف يصدمنا أن نجد بعض الدول التي جعلت المادة الأولى في دستورها عن المواطنة، هي أكثر الدول انتهاكًا لحقوق الإنسان، واعتداءً على حريات شعوبها، وتقييدًا لحركة أبنائها.
وإذا كانت الديمقراطية ضرورة لممارسة المواطنة، فلا نبالغ إذا قلنا إن جميع الأنظمة المستبدة تضرب بقيم المواطنة عُرض الحائط، رغم أن دساتيرها وقوانينها تنص صراحة على الالتزام بها.. فلا تزال تلك الأنظمة -برعاية عالمية- تمارس هوايتها في تزوير الانتخابات، وسحل المعارضين، وفرض قيود مشددة على حريات الخصوم، في الحركة والتعبير وإبداء الرأي، ناهيك عن ألوان الفساد والمحسوبية والتمييز التي تقشعر لها الأبدان.
إن المواطن في كثير من دول العالم التي قبلت الأخذ بتلك النظرية العصرية، ما زال يعاني الامتهان، وعدم الشعور بالأمن على نفسه أو ماله، والناس ليسوا سواء أمام القانون.. وبعد أن صدّعنا منظرو المواطنة بإيجابياتها وفضلها على إنسان القرن الحادي والعشرين، سمعنا ورأينا عن «سجون للإيجار» في أوروبا وبعض دول الشرق الأوسط، استخدمتها أمريكا لتعذيب خصومها حول العالم، وسمعنا ورأينا انتهاكات بشعة في مطارات الدول الكبرى، بسبب اللون أو الدين أو الانتماء، فهل طالب أحد بمراجعة بنود المواطنة وطالب بتنفيذها؟! لم يحدث ذلك، بل لا زالت تلك الانتهاكات تُمارس ربما بصورة أبشع مما سمعناها ورأيناها.
وإذا كان إنسان الماضي قد عانى المعاملة القاسية والحطّ من كرامته، فإن إنسان «المواطنة» الحديثة يعاني ما هو أشد، فالأنظمة الديكتاتورية التي تتغنى -كذبًا وزورًا- بالديمقراطية وحقوق الإنسان، تمارس دور الآلهة على شعوبها التي لا تعرف عن الحريات شيئًا.. ومن يزعم أن عهد الرقِّ قد ولّى فقد أخطأ، فتجارة الرقيق أكثر رواجًا مما مضى، وإن أخذت أشكالًا ومسميات عصرية غير أشكالها ومسمياتها التقليدية.
لقد صارت كلمة «مواطنة» في الدساتير العربية مثالاً للتندر والسخرية، وأقل ما يقال في ذلك: إن النظام العالمي أمر حكام العرب بوضعها في دساتيرهم فوضعوها، وإذا قال لهم غدًا امحوها من دساتيركم فسوف يمحونها.. ويقال أيضًا إن «عشم» المواطن العربي في تحقيق قيم المواطنة التي أقرّتها دساتير بلادهم مثل «عشم إبليس في الجنة»؛ لأنه -ببساطة شديدة- لن تسمح تلك الأنظمة بأن يكون للمواطن عليها سبيل، وهو الذي كان عبدًا ذليلًا لها منذ أن وعت تلك الأنظمة على السياسة وعرفت طريقها إلى كراسي الحكم.
الواقع العالمي، والعربي على رأسه، يقول إن واجبات المواطنة متحققة بدرجة كبيرة؛ ذلك لأن المواطن المسكين هو الذي يؤديها، وبما أنه الطرف الضعيف الذي نشأت النظرية لنصرته، فهو لا يتردد في إنجاز ما عليه من واجبات لصالح دولته، وهو غير مشكور على أي حال!! فالمواطن يحترم الدستور والقوانين السارية، ويحترم القضاء وأحكامه، وهو يمكّن السلطتين التنفيذية والقضائية من أداء دورهما.. إلخ تلك الواجبات، لكنه لا يحصل على شيء من حقوقه التي تحدثت عنها نظرية المواطنة، ولا أظن أحدًا يمكنه إنكار ما يجرى للناس في أقسام ومراكز الاحتجاز من عمليات ممنهجة لقتل المواطنين وتعذيبهم وإهدار كرامتهم، كما لا يستطيع أحد إنكار التمييز الهمجي من جانب تلك الأنظمة بحق خصومها ومعارضيها السياسيين، وحرمانهم من أبسط مقررات حقوق الإنسان، وإجبارهم على العزلة، وتسخير كافة أجهزة الدولة في نبذهم ورميهم بالتهم والتشنيع عليهم وعلى ذويهم.
إن الذين وضعوا نظرية المواطنة قصروا الحديث على المواطن، حقوقه وواجباته، ونسوا أو تناسوا الحديث عن «الطغاة»، الذين يديرون «الدولة الإله» أو «الدولة المقدسة» التي تفرض سلطانها على الجميع دون مناقشة، وبذلك جردوا القضية، وجعلوها هلامية؛ إذ لا يصح الحديث عن الوطن والمواطنة قبل إزاحة هذه الأصنام عن أماكنها، ثم نشر ثقافة المواطنة، التي لن تقوم لها قائمة إلا إذا تساوى الحاكم بالمحكوم، والوزير بالأجير.