عامر شماخ يكتب: العولمة الثقافية.. خطر يهدد المسلمين
تعبِّر العولمة الثقافية عن ظاهرة معاصرة تسعى لتوحيد أشكال التعبير الثقافي حول العالم، واتجاه نحو تجانس التجربة الإنسانية لجعلها على نمط واحد، ساعد في ذلك ثورة إعلامية وتكنولوجية غير مسبوقة، وتمدد هائل للشبكة العنكبوتية، وما استتبعها من انتشار لمواقع التواصل الاجتماعي المقرونة بحرية تعبير سمحت بانتقال الأفكار وتشكيل المبادئ والقيم بسهولة، وبروز ملامح لعلاقات دولية تمنح أمريكا والغرب القدرة على تعزيز إستراتيجيتهم، وفرض سيادتهم على الآخرين.. والعولمة الثقافية هي أخطر أنواع العولمة؛ لما لها من قدرة على استدراج الشعوب الضعيفة للتنازل عن شخصيتها وطمس هويتها.
أهداف جلية وخفية:
لا أحد ينكر إيجابيات العولمة الثقافية؛ فقد مدّت جسور التعارف والتبادل الثقافي بين الشعوب، وساهمت في تعزيز العلاقات الدولية، ودعّمت العدالة المجتمعية وقضايا حقوق الإنسان، وأدت إلى تطوير سلوكيات الاستهلاك، والأهم: مساهمتها في رفع درجة وعي الأفراد، وتحرير وسائط الإعلام من هيمنة الأنظمة السياسية..
وهذه الإيجابيات يقابلها في الحقيقة سلبيات وأخطار لا تُحصى، وهي ناشئة من أهدافها، الجلية والخفية، وإن بدت أنها تسعى لخير البشرية ومواجهة العقبات التي تقف في طريق الإنسانية؛ ذلك أن إحلال ثقافة محل أخرى وتوحيد العالم في منظومة فكرية واحدة هو استهداف لهُوية الأمة وعقيدتها، وإن غُلّف بأشكال فنية تَخِيْلُ على الكثيرين، وإن محاولات فرض الثقافة الغربية الحداثية، بالترغيب والترهيب، في عاداتنا وقيمنا ومناهجنا ومأكلنا ومشربنا وملبسنا –لهو نوع من الاحتلال والسيطرة غير المباشرة، وصياغة جديدة للعقول والأفهام بعدما تهيأت الظروف لحمل الأفكار الغربية إلى مجتمعاتنا حتى غزت البيوت واقتحمت العقول.
مظاهر الهيمنة الثقافية:
تتمثل محاولات الهيمنة الغربية، في الناحية الثقافية، على أمتنا في ممارسة قدر كبير من السيطرة على مؤسساتها وكياناتها الثقافية والاجتماعية؛ وصولًا إلى:
• ترويج ثقافة الإباحية والشذوذ والجنس القذر، واستخدام ألفاظ مخففة وعبارات لطيفة عند الحديث عنها كي يستحسنها المتلقي.
• ترويج ثقافة التطبيع مع العدو الصهيوني، وفي المقابل تشويه معاني الجهاد والمقاومة والنضال والكفاح والتحرير إلخ، ووصم أصحابها بأوصاف منفّرة.
• محاولات توحيد العادات والتقاليد على الطريقة الأمريكية أو الغربية، ويبدو ذلك واضحًا في الأكل والشرب والرياضة والترفيه والفنون والموسيقى إلخ.
• محاولات دءوب لإحلال اللغة الإنجليزية محل اللغة العربية، كمظهر من مظاهر التحضر.
سحقٌ للهُوية:
تسعى العولمة الثقافية إلى خلخلة المعتقدات الدينية لدى شعوبنا المسلمة لصالح الفلسفة الغربية اللادينية أو النصرانية المنحرفة، بتقليدهم في لباسهم وعاداتهم واحتفالاتهم وأعيادهم، وبذل المحاولات لاستبعاد الإسلام عن الحكم والتشريع، والترويج لقيم الكفر والعلمانية والروح البرجماتية، ودعم المؤسسات والجهات التي تفرِّغ الإسلام من مضمونه وتهتم بالمظهر على حساب الجوهر..
ويَجِدُّ الغرب الآن، أكثر من أي وقت مضى، في تغريب المسلم، وإبعاده عن قضاياه الأصلية، وقد قصد من وراء شيوع الثقافة الاستهلاكية –على سبيل المثال- أمرًا أخطر، هو أن تلك المنتجات التي سادت في كثير من بلداننا تجلب معها قيم وعادات ولغة منتجها، فيبقى المستهلك أسيرًا له بقدر تعلقه بسلعته، منصرفًا عن منتجات بلده، مكرسًا لديه النزعة الأنانية، بعيدًا عن العواطف والمشاعر الإنسانية النبيلة وقيم الإسلام القائمة على التعاطف والتكافل والتراحم.
أخطار تهدد العرب والمسلمين:
دراسات علمية عديدة استعرضت تأثيرات العولمة على الأمن الثقافي، العربي والإسلامي، في ظل ثورة اتصالية عظيمة؛ فقد كرّست العولمة الثقافية انقسامات مجتمعية، أثّرت سلبًا على الهوية، وأحدثت اختراقات بالفعل في الفكر الجمعي للشعوب، وطمست قيمًا لإحياء قيم غربية.. إن العملية برمتها كما وصفها مفكرون غربيون يدافعون عن قيم وحريات الشعوب إن هي إلا شكل من أشكال «الإمبريالية الفكرية» الذي يصادر الضمائر باستخدام آليات وتقنيات متطورة..
في كتابه «نهاية التاريخ» يقول «فوكوياما»، الفيلسوف الأمريكي المعروف: (الكل سيأكل الهامبرجر وسيرقص الروك، وسيقلد نمط الإنتاج أو الحياة الأمريكية)؛ ما يؤكد أن ما يجري ليس خبط عشواء، بل مخطط قُصد به دمج ثقافتنا في ثقافتهم، وعقيدتنا في عقيدتهم، أما السيادة والريادة والإدارة والمشورة فتكون لهم، وعلينا أن نقبل –بل أن نفرح- بهذه الأمركة! التي توحي في ظاهرها بحرية الإنسان، لكنها في حقيقة الأمر انفلات وضياع، وقد رأينا في جانب منها: تفكك الأسر، وتمرّد الجيل الجديد، ونشوء سلوكات مقززة، وانسلاخ ظاهر من ثقافتنا العربية والإسلامية.
كيف نواجه العولمة الثقافية؟
لم يصح إلى الآن ما يدّعيه دعاة العولمة أنها لا تكره أحدًا على تبني سياساتها، أو أنها لا تفرّق بين البشر.. بل صحّ أنها انتقائية، مخالفة للفطرة، قائمة على إجبار العالم على أن يكون نسخة واحدة، خصوصًا العولمة الثقافية التي تسعى إلى تلاشي الثقافات المخالفة للثقافة الغربية، والتحلل من الهوية الذاتية إلى هوية الأمريكي صاحب القوة المادية؛ ليصير العالم الإسلامي ذيلًا في ركابه يفعل به ما يشاء..
لذا وجب مواجهة هذا التيار وعدم الاستسلام له، ودحض مخططاته، والتحصين ضد أخطاره؛ بنشر الوعي بالهوية الإسلامية، وإعداد جيل معتز بقيمه وعقيدته، والاهتمام بكيان الأسرة، والعناية باللغة، وإبراز إنسانية الإسلام وعالميته، في مقابل برجماتية وأنانية الحضارة المادية الغربية، ومن المهم تهيئة الجانب الإعلامي ووسائل الاتصال بما يتيح ممانعة هذا التيار المدمر، وتوظيف التكنولوجيا بما يخدم القضية ويساير الثورة الاتصالية المعاصرة.