عامر شماخ يكتب: تذكرةٌ للْمُصلِحين
عنصرُ القوةِ في الإسلام، كامنٌ في ملاءمته للفطرة البشرية، وفي الاستعلاء على العبودية للعباد ورفض الخضوع إلا لله رب العباد، وفي عدم الوقوع تحت سلطان الطغاة المتسلّطين، مهما اشتدت وطأتهم، ومهما قاموا بحملات القمع والتشويه.
إن عقيدة المسلم تفرض عليه ألا يتوكل إلا على الله، وألا يركن لسواه، وألا يدعو غيره، فإذا وقع بينه وبين الظالمين صدام؛ ثبت في الميدان، واحتمل الأذى والعذاب، صابرًا محتسبًا، موقنًا بنصر الله ووعده لعباده الصادقين (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام: 34].
والمسلم صحيح الإسلام، سليم العقيدة، صلب العود، شديد الثقة بربه، وبالسبيل التي يسلكها، كما هو على ثقة أشد بتهافت الظالمين، وسوء مآلهم، وما هم عليه من خذلان؛ (لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر: 43، 44].
إننا بحاجة إلى التذكرة بمعاني الثبات، وبما يجب أن نقدمه لديننا وأمتنا من تضحيات.. وخصوصًا عندما يزداد كبر الباطل وعندما يزهو وتنتفخ أوداجه، طامعًا في استئصال الحق وإفناء أتباعه.. تكون تلك التذكرة باستعراض سير الرسل والصالحين، وما لاقوه من أقوامهم، وكيف ثبتوا وتحدوا الملأ المترفين..
وتكون التذكرة أيضًا بالفهم الصحيح لحقيقة الدين، ودوره في إصلاح الأمم وما يستتبعه ذلك الإصلاح من صعوبات، وما يقع على الفئة المؤمنة من عنت وإيذاء، يقول النبي ﷺ: «إن الرجل قبلكم كان يمشّط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، ويُنشر بالمنشار فرقتين؛ ما يصرفه ذلك عن دينه، والذي نفسي بيده ليظهرن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه.. ولكنكم تستعجلون.
قال عمرو بن العاص: (مررتُ ببلال وهو يعذَّب في الرمضاء، لو أن بضعة لحم وضعت لنضجت، وهو يقول: «أنا كافر باللات والعزى»، وأمية بن خلف مغتاظ عليه فيزيده عذابًا فيقبل عليه، فيذهب خلفه فيغشى عليه، ثم يفيق).
ومر أبو بكر -رضى الله عنه- بأبي فكيهة واسمه «أفلح» وقيل «يسار» -رضى الله عنه- وقد أخذه أمية بن خلف فربط في رجله حبلًا، وأمر به فَجُرَّ، ثم ألقاه في الرمضاء، فمرّ به جُعلٌ، فقال: أليس هذا ربك؟ فقال: الله ربى خلقني وخلقك وخلق هذا الجُعلَ. فغلظ عليه، وجعل يخنقه، ومعه أخوه أُبى بن خلف يقول له: زده عذابًا حتى يأتي محمد فيخلصه. فأخرجه نصف النهار في شدة الحر مقيدًا إلى الرمضاء، ووضع على بطنه صخرة، فدلع لسانه، فلم يزل على تلك الحال حتى ظنوا أنه قد مات، ثم أفاق فمر به أبو بكر -رضى الله عنه- فاشتراه وأعتقه.
وأعجب من ذلك ماشطة ابنة فرعون، التي سقط المشط من يدها ذات يوم، فقالت: بسم الله، فرفعت ابنة فرعون رأسها وقالت: أبى؟ فقالت الماشطة: لا، ربى ورب أبيك الله، فقالت لها: أخبرُ أبى بذلك إذًا؟! فقالت: أخبريه، فأتى بها فرعون وهو ليس لديه أدنى شك أنها ستتراجع، فسألها فأعادت عليه الكلام نفسه، فأحضر فرعون قدرًا من نحاس، فأوقد عليها النار حتى احمرّت كالجمرة، فأعاد عليها الكلام فثبتت على دينها.. فأخذ طفلًا لها رضيعًا فألقاه فى القدر، فإذا بالرضيع ينحمس كما تنحمس الحبة، فقالت له: لي عندك حاجة؛ أن تجعل رفاتي ورفات أبنائي في قبر واحد، فقال لها: لكِ هذا، ثم ألقاهم واحدًا تلو الآخر وهي تنظر وتحتسب.
يرفع المؤمنون شعار: (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [إبراهيم: 12]، مؤملين في فرج الله القريب، غير مستعجلين؛ لعلمهم أن طريق المؤمنين محفوف بالمخاطر والفتن، وماذا يفعل العبيد وجيوش الظلم والإلحاد مع رسل الله والصالحين من عباده -إلا أذًى، سرعان ما يكون بردًا وسلامًا على المتوكلين، ومقتًا وعذابًا على الظالمين.
يذكر البلاذري أن «لبينة» جارية بنى مؤمل قد أسلمت قبل عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- فكان عمر يعذبها حتى يفتر، فيدعها ثم يقول: أما إني أعتذر إليك بأني لم أدعك إلا عدامة، أي تعبًا وإعياءً، فتقول: كذلك يعذبك الله إن لم تسلم.
إن هذا التاريخ الناصع من التضحية في سبيل الله، والاستهانة بمكر الماكرين، من أعداء وخصوم الإسلام، هو الذي أبقى الدين، وهو الذي سقى شجرة الحق حتى رأيناها نحن بيضاء نقية، وحتى سمعنا وشاهدنا رجالاً عذّبهم الطغاة المجرمون عذابًا لا يحتمله بشر؛ فلم يزد أحدهم على تفويض أمره لله، مستمسكًا بدينه، مستعليًا على الحكام، والأنظمة والعروش الواهنة وهن بيت العنكبوت.