عامر شماخ يكتب: ثوراتُ الفلسطينيين [2/ 2]
تفجّرت ثورة الحجارة أو (الانتفاضة الفلسطينية الأولى) في يوم 8 ديسمبر عام 1987، وكانت ثورة شعبية شاملة استمرت حتى 13 سبتمبر 1993، وهى الأوسع نطاقًا بعد ثورة 1936؛ حيث استقطبت كل فئات الشعب الفلسطيني، وزلزلت الكيان الصهيوني المحتل، وقَضَتْ على أسطورة (الجيش الذي لا يُقهر)، ودشَّنتْ مرحلة تاريخية مختلفة بعد أربعة عقود من النكبة.
ببسالة نادرة؛ واجه الفلسطينيون في هذه الثورة آليات جيش اليهود بالحجارة، واستطاعوا تطوير وسائل المعركة خلال السنوات الست حتى روّعوا العدو، وشكّلوا له هاجسًا أمنيًّا بعدما عجز عن المواجهة، وقد انتزعوا في النهاية جزءًا من حقوق الشعب الفلسطيني، وأفشلوا مخططات الصهاينة الرامية إلى طمس الهُوية الفلسطينية.
استدعى عددٌ من الأسباب هذه الثورة التي لم تنطفئ جذوتها من صدور الفلسطينيين أصحاب الحق الشرعى فى البلاد؛ فمنذ العام 1948 والشعب الفلسطيني يتجرّع مرارة الاحتلال الذي لم يكفّ يومًا عن ممارسة العنف والتمييز ضد أبنائه، وتهجيرهم وتقييد حريتهم في الانتقال، وضم أراضيهم لبناء المستوطنات، وقد امتلأت سجونه بالأسرى.. كلُّ هذا وقد انصرفت عنهم قياداتهم (القومية) المقيمة بالخارج إلى مصالحها الخاصة، كما انصرفت عنهم جيوش وعروش العرب، إلا من تأييد جماهيري نخبوي محدود.
اشتعلت شرارة الثورة في مخيم جباليا بقطاع غزة، بعدما قام سائق شاحنة يهودى بدهس سيارتين لعمال فلسطينيين على حاجز (إيريز)، فقتل أربعة منهم وأصاب تسعة آخرين. وفى اليوم التالي وأثناء دفن المغدورين ألقى المشيعون الحجارة والمولوتوف على موقع للجيش الإسرائيلي، فردَّ عليهم الجنود بإطلاق النار، إلا أنه ازدادت الحشود، فطلب الجيش الدعم، فواجههم الشباب بشجاعة وإقدام، ثم توسّعت الثورة إلى باقي مدن وقرى ومخيمات فلسطين، فاستغاث الجيش بـ(حرس الحدود) المعروف بشراسته، إلا أن ذلك لم يوقف الانتفاضة، بل زادها اشتعالًا وإحكامًا.
وإزاء هذه التطورات فَقَدَ قادةُ الكيان توازنهم؛ فأطلق وزير الدفاع (إسحاق رابين) ما أسماه (سياسة تكسير العظام)، فتوسّع المحتل في الاعتقال والتعذيب والقتل، وقام بإغلاق الجامعات وهدم البيوت واقتلاع الأشجار وغلق المعابر وإبعاد قيادات الانتفاضة، كما ارتكب مجازر بشعة فى عدد من القرى والمخيمات حتى بلغ عدد من قضى من الفلسطينيين خلال السنوات الست: (1300) شهيد، منهم (241) طفلًا، غير (90) ألف مصاب، و(60) ألف معتقل، وتدمير (1228) منزلًا، واقتلاع (140) ألف شجرة.
منذ أول يوم في الانتفاضة؛ استمسك الفلسطينيون بوحدتهم، وحطّموا حاجز الخوف الذي فُرض عليهم لعقود؛ فأضرب الجميع عن العمل، وشرعوا في تنفيذ عصيان مدني، وطوّروا وسائل المواجهة من الحجر إلى المقلاع، فكانت السكاكين والمصائد والعوائق، ثم القيام بعمليات مسلحة لمهاجمة قوات وحافلات العدو، واختطاف جنوده لمبادلة أسرى بهم، وحرق محلات ومزارع اليهود، وملاحقة العملاء وسماسرة الأراضي لتطهير الصفِّ الفلسطيني.
شارك أطفال فلسطين الصغار في هذه الانتفاضة بكثافة، وفى كل المدن والقرى والمخيمات، حتى أُطلق عليها (انتفاضة أطفال الحجارة)، وقد استشهد خلالها أكثر من مائتي طفل، غير من فقدوا عيونهم أو أصيبوا بعاهات دائمة، ولهذه المشاركة من جانب الناشئة دلالات أرعبت العدو، وأكدت له بلسان الحال أن أطفال فلسطين وُلدوا وفى دمائهم حبُّ هذا الوطن العزيز والدفاع عن مقدساته غير عابئين بالتضحيات.
بعدما فشل العدو في إنهاء الانتفاضة بالقوة الوحشية، التف حولها بتقديم تنازلات فيما عُرف بـ(اتفاق أوسلو) الذي وقَّعه كلٌّ من: ياسر عرفات، وإسحاق رابين، وبيل كلينتون في 13 سبتمبر 1993 والذي لم يلتزم اليهود –كعادتهم- بتنفيذ كل بنوده.. توقفت بعده الانتفاضة، لكنها كانت قد أثمرت العديد من الإنجازات لصالح القضية الفلسطينية؛ فقد أوجدت حالة من الوعي الجماهيري أبرز الهُوية الفلسطينية كما لم تكن من قبل ما دعَّم مشاعر بالوحدة الوطنية، وبالمثل؛ استقرت القضية من جديد في وجدان الجماهير العربية بعد عقود من التجاهل والنسيان.
لقد أعادت الانتفاضة القضية الفلسطينية -وبقوة- إلى الساحة الدولية، وأوجدت حالة من التعاطف معها، وفضحت الإرهاب الصهيوني وداعميه، والأهم: أنها شهدت ولادة حركة (حماس) التي أسست لمرحلة جديدة في الصراع الفلسطيني الصهيوني فيما يشبه توازن الرعب، كما أوقفت الانتفاضة خطط العدو بإغراق الشارع الفلسطيني في الفساد الأخلاقي والجرائم والمخدرات، وأعادت الأمل إلى الشعب الفلسطيني وإلى الشعوب العربية في النهوض، والتخلص نهائيًّا من الاحتلال.