ما أعظم دساتير الغرب وإعلاناته في مجال حقوق الإنسان، والتي عظَّمت شأن الآدمي وكفلت كرامته، وهيأت له البيئة الآمنة والسلامة من جميع الأخطار، وقد امتدت تلك الحقوق لتشمل حيواناته وحتى الطيور التي ترفرف في سمائه..
لكن.. تظل هذه الحقوق حكرًا على الرجل الأبيض وفى نطاق البقعة التي يسكنونها، وفى إطار مطالبهم القومية. أما عندما يتعلق الأمر بغير الغربيين فإن دساتيرهم وإعلاناتهم المشار إليها تصير نظرية لا يطبق منها إلا ما جلب لهم مصلحة أو استُغلّ لمنفعة.
عالم براجماتي متناقض، يقول ما لا يفعل، ولا يستحيى من إتيان الشيء وخلافه، ولا يمنعه ذلك من تقديم براهين مزيفة وأدلة ساذجة لا تخيل على عاقل.. وقد بدا هذا العالم الذي يدعى التمدن، في الحرب على غزة، جشعًا مستغلًا، متعصبًا منحازًا، يكيل بمكيالين رغم الشواهد على إجرام من ينحاز إليه، ورغم النداءات المتكررة بتحكيم المبادئ الإنسانية وما تعارفت عليه الأمم المتحضرة.. لكن لا حياة لمن تنادى.
حتى المنظمات التي يُطلق عليها «أممية»، أي من المفترض أن تعمل من أجل مصلحة الجميع، هي أيضًا على النمط العنصري نفسه الذي تنتهجه أمريكا والغرب. كم اجتماعًا عقدته «الأمم المتحدة» حتى الآن، ثم ينفض ولا نتيجة، والغرض: التسويف من جانب تلك الهيئة حتى يرتوى العدو من الدم، وحتى يرضيه عددُ القتلى وكمُّ المنازل المهدمة، وفى الأخير: لا إدانة ولا إجراءات تردع القاتل أو تمنعه من تكرار جريمته.
ماذا نسمى هذا التناقض إذًا؟ وبماذا نفسِّر انحياز دول مثل أمريكا وألمانيا، وبشكل صريح، للكيان الغاصب رغم ديمقراطية الدولتين وتمتع شعبيهما بجميع حقوق الإنسان؟ ولماذا يبقى ما يُعرف بـ«الفيتو» إلى الآن؟ ولِمَ هذا التناقض الفج من إدارة «الفيس بوك» -مثلًا- لدرجة أنه ينتهك بنفسه «المعايير» التي وضعها لمستعملي تطبيقه، ويصنف مشتركيه بحيث يعاقب المتعاطفين مع الفلسطينيين ويحذف منشوراتهم ويحظرهم لمدد متفاوتة؟
الحقيقة أن حقوق الإنسان التي تأسست في الغرب بعد ثورات وحروب وأزمنة عمَّها الظلام، جاءت علاجًا للخروج من تلك الكوارث التي امتدت لقرون، وكانت هي الضمانة للاستقرار وإخماد الثورات، فهي ليست مبدأ أو عقيدة في فكر من أنشأها؛ بدليل أن هذه الدساتير العظيمة سرعان ما تتبدل إلى النقيض في حال نشوء خلاف مع جارة من نفس القارة أو حتى بين الأحزاب والجماعات داخل الدولة نفسها.
والحقيقة الأخرى الأمرُّ: ألا مجال عند هؤلاء للحديث عما يسمى «حقوق الإنسان» بالنسبة للمسلمين؛ فهؤلاء في تصور الغرب أعداء دين وتاريخ؛ من ثَمَّ وجب اتخاذ جميع السبل الكفيلة بإبقائهم تحت وابل القصف المادي والمعنوي فلا يفيق عالمهم من مصيبة حتى يقع في غيرها فيُحرمون بذلك الاستقرار. وقد أكد الصحفي السويدي «إيريك هرستاديوس» -وكان ممن تابعوا حرب الخليج- هذا الأمر بقوله: (لو أن مائة ألف عربي قُتلوا لما انتابني أي شعور غير عادى، أما بالنسبة لقوات الحلفاء الغربيين فالأمر مختلف؛ لأني أشعر بالتعاطف معهم ومع أسرهم. إن العرب يبعثون الخوف في نفسي على أية حال).
من أجل ذلك حرص الغرب على إبقاء عالمنا محكومًا بالطغاة، الذين يأتي بهم ويدعمهم بشتى السبل، ولا يتخلى عنهم إذا مسَّهم طائف الثورة أو التغيير الشعبي؛ لأن هؤلاء ضمانة لتحقيق أهدافه بأسرع وأفضل بكثير من الاحتلال، وقد جرَّب بقاء قواته لعقود في بلادنا فلم يفلح في تغيير معتقد أو تبديل دين. يقول المستشرق الأمريكي «وك سميث»: (إذا أُعطى المسلمون الحرية في العالم الإسلامي وعاشوا في ظل أنظمة ديمقراطية فإن الإسلام ينتصر في هذه البلاد، وبالديكتاتوريات وحدها يمكن الحيلولة بين الشعوب الإسلامية ودينها).
ومن واجب المسلمين اليوم، وقد أُتيح لهم ما لم يكن متاحًا من قبل من فرص التغيير وإسماع الآخرين صوتهم، أن يعلموا أن هذا «الغرب» لن ينصفهم، وأن الحقوق تُنتزع ولا تُستجدى، وأنه في عالم تحكمه المصلحة لا بد من الوعي واليقظة، واستلهام تجارب المصلحين في التغيير، ولا يمنع ذلك من الاستعانة بغربيين منصفين، فهم أدرى بما يخبئه أقوامهم لنا، وأقدر منا على فضحهم وكشف سوءاتهم. والله المستعان.
