مقالات

عامر شماخ يكتب: داعيةٌ نَقَضَ غَزلَه!!

لا مصيبة أعظم من ضعضعة عالم وركونه إلى الظالمين، خوفًا أو طمعًا، فإن ذلك محراك شرٍّ وفتنةٍ، وقد أُمر بالاستقامة على دين الله لكنه ضلّ وأضلّ، ونقض عهد الله وميثاقه كما فعلت علماءُ بنى إسرائيل؛ (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران: 187]، وسلك طريقًا غير طريق القرآن؛ (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 3].

ومما ابتُليتْ به الأمة في آخر الزمان: ابتذال العلم وهوان العلماء، وانشغالهم بالمال والعيال، والطموحات والتطلعات، وعدم الزهد والقناعة كما كان الأوائل -رحمهم الله-؛ وهذا ما جرَّأ السلاطين والحكام على الشعوب، وأضعف الدين والملة في قلوب الناس، بل جرَّأ الشرقي والغربي على نهش جسد الأمة التي باتت تشكو الضعف والانكسار، والهزيمة والضياع، وهذا جزاء من عميت بصيرته فتنكب صراط الله العزيز الموصلة لكل برٍّ وخير؛ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153].

يكون الداعية في مبتدئه محمود السيرة نقى السريرة، ثم يكون الاختبار، فمن أخلص فقد نجا فأعزه الله وعافاه، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، كالمرأة الخرقاء التي كانت بمكة وكلما غزلت شيئًا نقضته بعد إبرامه ونزل فيها قول الله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا…) [النحل: 92]، فهو في بئر ليس لها قرار، وقد كان في مأمن من هذا المستنقع السحيق لولا الشيطان الذى لم يتبرأ من وسوسته، ولولا نفسه الأمارة بالسوء حتى غلبت عليه شقوته فهو ممن وصفهم الله بهذه الأوصاف الشنيعة: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 175، 176].

إن الداعية إذا تخلى عن صفات الزهد والإخلاص والصدق والاستقامة، ومطابقة القول للعمل، والشجاعة والثبات على الحق، لم يصمد أمام الإغراءات التي تكون سببًا في نكوصه، وَوَضْعِ نفسه في مواضع التهم والسماح للناس بإساءة الظن به؛ ذلك أن الداعية بخلاف العوام؛ إذ هو على ثغر من ثغور الإسلام، وخاب وخسر إن أُتى الإسلام من قِبَلِهِ.

ولا شيء ألزم للداعية من الثبات، وله أسبابه ووسائل المحافظة عليه، فهو مانعه من السير في ركاب الظالمين وموافقتهم على ظلمهم، ومن الترخُّص والتفريط، ومن ليِّ أعناق الآيات والأخبار لخدمة أغراض غير ما أُنزلت له، ومن قبول الإهانة والتحقير، ومن معاداة الأطهار والمصلحين. والقرآن والسنة بهما ما لا يُحصى عدُّه من الآيات والأحاديث التي تحذر من انزلاق الداعية واستدراجه نحو هذا الشَرَكِ الذى لا نجاة منه؛ (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم: 9]، (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ…) [المائدة: 49]، والعصمة لمن عصمه الله ورضى عنه؛ (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران: 101]، (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 256].

إن مما يجبر خاطر العامة من ناحية العلماء، أن يكونوا في نصرتهم، شجعانًا إذا طُلبوا للفصل والشهادة، غير هيابين أو مترددين، وقد قرأوا: «أفضل الجهاد: كلمة عدل عند سلطان جائر»، «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله»؛ فإن لم يفعلوا عُوقبوا من جنس ما فعلوا؛ مصداقًا لقول النبي ﷺ: «ما من امرئ مسلم يخذل مسلمًا في موطن تُنتهك فيه حُرمته ويُنتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته. وما من امرئ ينصر مسلمًا في موضع يُنتقص فيه من عرضه ويُنتهك فيه من حُرمته إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته».

والمجال يضيق بعرض مواقف، قديمة ومعاصرة، لأئمة وعلماء ضربوا المثل في الثبات والقيام بالحق فكانوا منارات هدى لمن جاؤوا بعدهم، فلم يخفهم جور سلطان ولا سوط جلاد؛ والسرُّ في ذلك: أن دنياهم كانت في أيديهم ولم تكن في قلوبهم، وأنهم لم يتكسَّبوا بالإسلام؛ فإن من يتكسَّب بالإسلام لم يستطع خدمته.

عامر شماخ

كاتب صحفي مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى