عامر شماخ يكتب: «رابعة».. أمُّ الْمِحَنِ
ومما وقع في «رابعة» أن سيدة فضلى، من الريف، كان لها ولد وحيد بار بها، استأذنها في الذهاب إلى «الاعتصام» قبيل الفض، فشجعته وحمَّسته، لم تكن تتوقع الغدر، فلما ذهب لم يعد، استُشهد مع المئات، وحين أبلغوها الخبر جزعت جزعًا شديدًا، وأصرّت على أن تراه حيث قُتل، فحملها أهل الخير إلى «مسجد الإيمان» فلما رأت طوابير الجثامين الطاهرة قد اصطفت على أرضية المسجد وابنها بينهم، سكنت وخشعت، هان عليها مصابها أمام تلك الفجيعة الكبرى.
تتصاغر المصائب جميعًا أمام تلك المجزرة التي وقعت منذ إحدى عشرة سنة، ليس لكثرة من ماتوا فيها، بل لما بان من الغل والحقد على أهل التوحيد من طائفة من البشر يدينون ظاهرًا بديننا ويبطنون في الحقيقة العداوة لكل من يقول ربي الله. وهل يستحق العزَّل الآمنون كل هذا العدوان؟ لقد كانت حربًا بكل ما تعنيه الكلمة؛ حرق وهدم وقتل وتمثيل وإجهاز على الجرحى وانتهاك أعراض وسلب أموال إلخ.
لقد تجرد القتلة من كل ما هو إنساني، فلم يراعوا حرمة ولم يرقبوا فيمن قتلوهم إلًّا ولا ذمة، وأظهروا الشماتة والفرح بعد جريمتهم كأنهم عائدون من تحرير الأقصى أو تدمير السد، وقد وثقوا تلك الجرائم بالصوت والصورة افتخارًا بما فعلوا، وحشدوا خلفهم الرعاع يشيدون ببطولتهم، في مشهد يلخص جرأتهم على الله، وتجردهم من كل دين وضمير، ويثير في الوقت ذاته المرارة والألم في نفس كل عاقل يرى هذا العمل الذي يعجز الشيطان عن إتيانه.
ونقول إنها «أم المحن» لأنها بداية الفتنة التي ستطال الجميع، فلن ينجو منها قاتل أو شريك في القتل، وسوف تحل لعنة الدماء المعصومة على كل محرِّض ومشجع حتى الساكت عن قول الحق، ولعلنا رأينا أمارات ذلك في الضنك الذي عشش في البيوت، وفي الفشل الذي يلازم القتلة، وقد سُدّت أمام الجميع منافذ الأمل، والأرض تنتقص، والماء يضيع، والخبز يشح، ولم يعد أحد آمنًا على نفسه حتى من أيدوا القتلة بعدما انقلبوا عليهم وباتوا يخططون للنجاة بأنفسهم دون غيرهم إما بمضاعفة حساباتهم البنكية في الخارج انتظارًا لساعة الفرار، أو بتحصين أنفسهم في مدينة بعيدة عن أماكن الانتفاض والثورة التي يتوقعون اشتعالها في أي وقت.
وإنا على ثقة بأن الله منتقم، في الدنيا، من كل هؤلاء المجرمين؛ إذ كما أفسدوا على المقتولين وذويهم دنياهم فسوف يفسد الله تعالى عليهم دنياهم، ولا يغرنك ما هم فيه من جاه ظاهر فوالله إن عذابهم يكون في بنيهم وفي هذا الجاه، وما يعلم جنود ربك إلا هو.. وأما في الآخرة فإنا ننتظر وعيد الله فيهم كما جاء في نصوص لا تُحصى، منها قول النبي ﷺ: «يجيء الرجل آخذًا بيد الرجل، فيقول: يا رب، هذا قتلني، فيقول الله: لِمَ قتلته؟ فيقول: قتلته لتكون العزة لك، فيقول: فإنها لي. ويجيء الرجل آخذًا بيد الرجل فيقول: إي رب إن هذا قتلني، فيقول الله: لِمَ قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان، فيقول: إنها ليست لفلان، فيبوء بإثمه.
وإذا كانت «رابعة» هي أم المحن، فهي كذلك مستحيلة على النسيان، فإنها ليست ذكرى تحل، أو مؤتمرًا ينفض، وليست -كما ذكرت- حادثة سقط فيها ألفان أو ثلاثة آلاف، بل هي قضية كل حر، ومحطة للوعى وتوجيه البوصلة، وانطلاقة لتغيير أكبر وانقلاب أعظم على الكثير من المفاهيم المغلوطة، وبداية حقيقية لتوحيد الصف ونبذ الخلاف، ودماؤها من يومها إلى أن يتم القصاص لها ديْن في رقبة كل من علم بها فلا يُعذر بالسكوت عنها أو التبرير لها.
ومن قلب هذه المحنة الكبرى ستكون المنحة، بل المنح إن شاء الله، هكذا قال ديننا، وهكذا أنبأنا التاريخ، فما من نكبة أصابت صالحي قوم إلا أعقبها الفرج والنصر وإن طال الانتظار، فإن الحق أحق أن يُتبع، وإن الباطل كان زهوقًا، وإن أنصار الحق وحوارييه مستمسكون به غير منفصلين عنه، وأما أنصار الباطل وإن كانوا كثرة فمنفضون عنه حتمًا لقيامه على الخديعة والوهم؛ ولأن الله كتب ذلك في قانون البشر وإلا لفسدت الأرض، فجعل التدافع سنة في خلقه، وجعل الحق منتصرًا أبدًا والباطل منهزمًا دومًا.. ولله في خلقه شئون.