عامر شماخ يكتب: «صفات القيادة الدعوية الناجحة»
يسرى على الجماعات الدعوية ما يسرى على سائر الجماعات الأخرى؛ فإنها تقوى وتضعف، وتصح وتعتلّ، وتمتد وتنكمش، وقد تعمِّرُ حقبًا عديدة قوية فتية كالجبل تمر عليه المحن وهو راسخ لا يهزّه نبحُ كلبٍ أو فرقعةُ ريح.. شريطة اعتصام الصفّ بالله، والاحتكام إليه، والتضحية لأجله ولا يكون ذلك إلا بالفهم والتجرد والتزام السلوك الإسلامي، دستورهم: القرآن الكريم، وقدوتهم محمد الأمين ﷺ.
ويأتي الخلل وتقع الفتنة حين يغيب الفهم وتُهمل الشورى، وحين تختفي «الربانية». هنا يكون التنازع والطيش وعدم تقدير العواقب، ويكون التنافر والحزبية اللذان لا يتفقان مع أُخوة الإسلام ودعوته العامة التي تجمِّع ولا تفرِّق؛ فيُطمس من ثَمَّ لونُ الدعوة الصافي ليطغى لونٌ آخر أو ألوانٌ أخرى يروِّج لها أولئك المتنازعون المتخبطون. ولله در القائل: (تبقى الأمورُ بأهلِ الرأى ما صلُحتْ… فإن تولَّت فبالأشرارِ تنقادُ).
وكلمةُ السرِّ في الجماعات هي «القيادة»؛ فإن صلحت صلح الصفُّ كلُّه وإن فسدت فسد كله، فهي الرأس للجسد، والعقل للإنسان. والقيادة الإسلامية الحقيقية هي التي تهدى الطريق، وتربِّى وتزكِّى وتعلِّم، وتوضح ما غمض، وتكون درءًا للفتنة، دليلًا إلى النجاة، رأسًا في العدل والحكمة والرحمة. وقيادة على هذه الصورة قادرة -بتوفيق الله- على لمِّ الشمل إذا انفتق، وإصلاح النزاع إذا وقع؛ فإنها تعمل لله غير متطلعة إلى مجد شخصيّ ولا يحركها هوى ذاتيّ، ولا تطغى عليها عاطفة تحجب عنها الحقيقة.
ولما غابت هذه المواصفات فى قادة بعض الجماعات رأينا المساوئ التي لم نرها في أحط الجماعات والمذاهب الأرضية، وصار إخوة الأمس أعداء اليوم، وتلقفت وسائل الإعلام المعادية أحاديث المعارك الدائرة بين الأطراف فزادت عليها أو انتقصت منها، فكثرت البلبلة، واضطربت المشاعر وصار الناس يتحدثون في جرائم ارتكبها فلان أو علّان، وقد يكونون برءاء من ذلك، لكنَّ هذه الأجواء المنفلتة هي التي هيأت تلك الشائعات التي طالت الدعوة ذاتها ولم تتوقف عند من وُجهت إليهم الاتهامات.
تنجو الجماعات -كما ذكرت- بإخلاص القائد ونزاهته وصدقه ووعيه، والصفّ تبع له، وها هو أبو بكر (رضي الله عنه) ينقذ الأمة بأسرها بتلك الصفات في مواقف فارقة: يوم السقيفة حين وأد الفتنة وقال بعدها: «والله ما كنت حريصًا على الإمارة يومًا ولا ليلة قط ولا كنت راغبًا فيها، ولا سألتها الله في سرٍّ ولا علانيةٍ ولكنى أشفقت من الفتنة»، ويوم وفاة النبي ﷺ حين أسكت عمر عن لغطه، ويوم الردة حين عزم عزمته فألجم العرب والعجم ونزع وسواسهم.
وتغرق الجماعات حين تفتقد هذه القيادة الرشيدة ويتقدمها الباحثون عن الشهرة عديمو الفهم ذوو المطامع والمطامح، فيؤخرون الكفايات، ويقدمون الأقارب و«الأحباب»، ويقزِّمون الجماعة لتليق بحجمهم ولو أدى ذلك إلى فرض أنفسهم على المجموع بالقوة، ومحو الشورى وتلفيق الانتخابات.
وتنجو الجماعات باختيار أعضائها لقادة زهَّاد رحماء يرفقون بهم ولا يشقون عليهم، يقدِّرون خطر المسئولية، ويستمسكون بشرع الله غير مفرطين ولا مبدلين، لا يحابون أحدًا ولا يجاملون في اختيار بطانة تقوِّمهم إن اعوجوا وتشجعهم إن استقاموا.. ولا ينفى كل هذا وجود رقابة ومحاسبة وشفافية، ولو كان هذا القائد شبيهًا بـ«يوسف الصديق» في علمه وأمانته؛ لأن هذا الباب مما تأتى منه الشبهات والشائعات فيجب غلقه.
وتنجو الجماعات بالاحتكام إلى الله فى حال الخلاف (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 59]، وبمنع القيل والقال وإخراس الألسنة الكاذبة وقتل الفتن في مهدها، ألا ترى موقف النبي ﷺ يوم «المريسيع»؛ إذ لما أثار المنافقون حادث الإفك وأكثروا الفتن على المسلمين حال قفولهم من غزوة (بنى المصطلق) –انطلق ﷺ بالناس طيلة يومهم حتى أمسوا، وطيلة ليلتهم حتى أصبحوا، وصدرَ يومهم الثانى حتى آذتهم الشمس، فلما نزل الناس لم يلبثوا حين مسّت جنوبهم الأرض أن ناموا من فرط التعب، فأنساهم ذلك ما فعله ابن سلول ورفاقه.. وسَلِمُوا وسلمت جماعتُهم.