عامر شماخ يكتب: عام على «طوفان الأقصى» [3]
منذ بداية الحرب فرض الصهاينةُ حصارًا شاملًا على قطاع «غزة»، أدّى إلى نقص شديد في الوقود والطعام والشراب والدواء والكهرباء، التي أثّرت على إمدادات المستشفيات ومحطات المياه والصرف الصحي، فتفشّت الأمراض على نطاق واسع.. وقد تفاقمت الأزمة بعد عمليات القصف العنيف التي أتت على البنية التحتية للقطاع، الذي دُمِّرت معظم مبانيه، كليًّا أو جزئيًّا، وحُوِّلت المؤسساتُ التعليميةُ والصحيةُ إلى أنقاض..
طوال أيام الحرب، باستثناء فترة الهدنة التي بدأت في الرابع عشر من نوفمبر عام ألفين وثلاثة وعشرين ولمدة سبعة أيام، عانى الغزِّيون من ندرة الطعام لعدم إدخال مساعدات، ومع طول أيام الحرب وتشديد الحصار؛ حيث لا يدخل القطاع سوى عشرة بالمائة من احتياجاته، بدا شبح المجاعة واضحًا على هياكل السكان ووفيات المرضى وكبار السن، وقُدِّرت نسبة الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية بتسعين في المائة، توفي منهم عدد كبير لهذا السبب..
وفي رحلة النزوح للبحث عن الطعام والمأوى الآمن، يتم استهداف الفارّين الجائعين، ويمتد هذا الاستهداف –وبشكل ممنهج بغرض التهجير- إلى المدارس والمشافي التي يأوون إليها، وتكتمل المأساة بمنع الطواقم الطبية من الوصول إلى المستهدفين، بقصف سياراتهم، واعتقال الأطباء وأطقم التمريض والتنكيل بهم.
وبسبب القصف الإسرائيلي العنيف على القطاع فرّ غالبية سكانه، أو ما قُدّر بنحو مليون وتسعمائة ألف شخص، محتمين بمرافق الأمم المتحدة والمدارس والمستشفيات، في ظروف غير محتملة، فيما يشبه معسكرات الاعتقال، وكلما استقرّ النازحون في منطقة أمر الصهاينة بإخلائها؛ لتبدأ رحلة نزوح جديدة تكتنفها المصاعب والويلات، حتى بلغت مرات النزوح لبعض سكان الشمال سبع مرات..
ورغم هذه المآسي والنكبات، نجح شعبُ «غزة» في إفشال خطة العدوّ لتحقيق أهدافه، وسطّر مع مقاومته الباسلة ملحمة رائعة من الصبر والصمود، وصار يُضرب بهم المثلُ في الرجولة والفداء، معطيًا الأمل لشعوب الأمة بإنهاء الاحتلال الصهيوني واسترداد أرضه ومقدساته.. يقف العالم الآن منبهرًا بهذه الأسطورة من الثبات في «غزة»، التي أفشلت الحصار، وأحبطت التهجير، واستنزفت العدوّ الجبان، بل مرّغت أنفه وحصدت آلياته وجنوده في وحل القطاع..
لم تَطُلْ حربٌ مثل حرب «غزة»، ولم يُقصف بلدٌ ويُدمّر مثلها، ولو كان في مقابل جيش الصهاينة عشرة جيوش نظامية لسلّمت بالهزيمة، وهو ما لم تفعله المقاومة الإسلامية من أبناء «القسّام» وباقي فصائل المقاومة، الذين تحميهم حاضنة فريدة ذات مبدأ وإرادة، رضيت بتدمير البيوت وهلاك المال وإزهاق الأنفس، لكنها لم ترض بالهزيمة والاستسلام، ولم تقبل أن تنخلع من أرضها ولو فنيت عن آخرها.. حمل الفلسطيني في قلبه إيمانًا عظيمًا بعدالة قضيته، رغم شعوره بقرب الموت، فهو في نضال وجهاد ما بقي المحتلّ على أرضه، متحايلًا على المحنة بكثير من الصبر والأمل، والتكيف السريع مع الظروف القاهرة، عوضًا عن تكرار نكبة الأمس التي أسلمتهم إلى وضعهم الراهن.
صمود الشعب الغزِّي في وجه الآلة الصهيونية وتثبيطه للعدوّ عن تهجيره أو الاستسلام له أو التخلي عن المقاومة -يمثل معجزة بما تعنيه الكلمة، ويدلُّ على إيمانٍ دينيٍّ قويٍّ لدى هذا الشعب الصابر الصامد من أجل تحرير وطنه من رجس الغزاة، ويذكِّرنا بما كان عليه سلفُ الأمة وصالحوها في عصورها الذهبية، وهو ما لفت شعوب الغرب من غير المسلمين إلى هذه الملحمة الكبرى على أرض «غزة»، وقد حشوا أدمغتهم من قبل -كذبًا وزورًا- بأن القوم أفظاظٌ إرهابيون.
قدّمت «غزة»، شعبًا ومقاومة، تجربةً ثريةً ودرسًا بليغًا للبشرية، وقد تعالت على الجراح، وأسست لنظرية اجتماعية ونفسية وعسكرية تشكِّل تفاصيلها المعنى الحقيقي للصبر والصمود، اختبرت هذه النظرية إيمان المسلمين الذين يقع عليهم عبء الإغاثة والنصرة، كما اختبرت إنسانية المواطن الغربي المفتخر بحقوق الإنسان وقيم الديمقراطية، وامتحنت العروبيين في مواقفهم العملية..
قدّمت «طوفان الأقصى» درسًا مهمًّا في حق الشعوب في التحرر إذا ما توفرت لها إرادة لا يتطرق إليها ضعف، وعزيمة تستهين ببذل النفس والنفيس، وأن شعارات السلام الزائف لا تحرر الأوطان، بل يحررها الإقدام والتضحية والصمود في وجه المحن والتحديات، ثم الاعتماد على الذات.