مقالات

عامر شماخ يكتب: في عيدِه العالمي.. الواقع البئيس للمُعَلِّم المصرىِّ

البلد العربي الوحيد الذي لم يُرَ فيه ابتهاجٌ بمناسبة «يوم المعلم العالمي: الخامس من أكتوبر» هو مصر. كلُّ البلاد شهدت احتفالات وتبريكات بهذه المناسبة اعترافًا بفضل وعطاء المعلمين، حملة مشاعل العلم، تطرقوا فيها لأدوارهم الحضارية ورتبتهم العالية بين مواطنيهم.

لماذا مرَّ اليوم هنا (ولا حس ولا خبر) والبلد زاخر بأعداد هائلة من المعلمين، وكان ولا يزال مُصَدِّرًا لهم إلى بلاد شتى، ولا يزال أبناء العروبة، وفيهم كبار المسئولين، يفخرون بأن معلميهم في المراحل المختلفة كانوا مصريين؟ أين المعلم المصري على خريطة العالم الآن؟ وأين دوره في العملية التعليمية التي انهارت؟ ولماذا استُبيحت كرامته؟ 

الحقيقة. الوضع مُزرٍ ولا ينبئ بخير، وشتان بين معلم اليوم ومعلم الأمس، وانظر إن شئت إلى صورة «المدرس» في الإعلام وكيف ظهر مثلًا فى فيلم «رمضان مبروك أبو العلمين حمودة» وفى مسرحية «مدرسة المشاغبين» وغيرهما من الأعمال المبتذلة المستهزئة بتلك الفئة، وانظر أيضًا إلى علاقة التلميذ بأستاذه: ماذا كانت وكيف أصبحت؛ حيث لم نعد نفاجأ بأن تلميذًا ضرب معلمه أو آخر تحرش بمدرسته، وانظر أخيرًا إلى علاقة المعلمين ببعضهم وكيف صاروا يتنافسون لا على الصدارة بمن يعلمونهم بل على الاستحواذ على أكبر قدر من الأموال. 

لقد عاصر جيلُنا معلمين أُباة، قبل أن تظهر كارثة «الدروس الخصوصية» التي غدت تعليمًا موازيًا لتعليم الوزارة، وهى -بالتأكيد- من صُنع الأنظمة المتعاقبة لحاجة في نفسها وليذهب التعليم إلى الجحيم! كان هؤلاء الآباء المعلمون مهرة مخلصين، منقطعين لمهنتهم، متزينين بحُسن الخلق وكريم الصفات، يعلوهم الوقار والهيبة. وكنا نحن الطلاب نعترف بفضلهم، ونحترمهم ونُجلّهم. كانت البيئة التعليمية على هذه الصورة الزاهية؛ لأنه كان للمعلم راتبٌ يكفيه، وكان المجتمع يضعه في مكانته اللائقة، وكانت هناك رقابة من الجهات الرسمية تصحح سيره ومسيرته.

الآن، ضاع كل جميل؛ اختفت مهارة المعلم، إلا من رحم ربى؛ لعدم وجود برامج لتطويرهم، ولكثرة الدخلاء على المهنة، وهذه وتلك لقلة المخصص المرصود للتعليم فى موازنة الدولة، كما لم يعد «المدرس» من الفئات المرضىِّ عنها في ظل أنظمة الجهل وحكومات الاستبداد؛ فانهار من ثم النظام التعليمي كله، وذهبت معه كرامة المعلم الذي ألقى رداءه جانبًا وصار يبحث عن «رزقه!» بالطرق المشروعة وغير المشروعة.

فى الوسط التعليمي الآن معلمون كُثر يسيئون إلى قدسية وشرف المهنة التي قال فيها «شوقي»: (قمْ للمعلمِ وفِّه التبجيلا… كادَ المعلمُ أن يكونَ رسولا)، هناك مخالفات لا تليق بمن يقفون أمام السبورة يعلمون النشء، وللأسف لا دور للنقابة -التي تعد أكثر النقابات عددًا بعد التجاريين- في حسم هذه الأمور، حتى فشت تلك المخالفات ولا رادع لأصحابها، قرأت أن أحدهم كان يعمل «طبالًا» بالليل ومعلمًا بالنهار وظل سنوات على هذه الحال، والكل يعلم بذلك، فما حقق معه يومًا مسئول حتى تقدم خصمٌ له بشكوى إلى الوزارة مباشرة فأوقفته عن العمل لفترة ثم عاد لما كان عليه! 

والمقام لا يتسع للحديث باستفاضة عن الكارثة الكبرى «الدروس الخصوصية» التي أفسدت التعليم برمته، وأرهقت ميزانية الأسر، وأهدرت كرامة المعلم الذي صار أجيرًا لدى تلميذه، يذهب إليه فى بيته، ويستلطفه ويمازحه حتى يرضى عنه ويظل خير أبيه مبسوطًا عليه. وقد تطورت الظاهرة حتى صارت هناك مراكز (سناتر) يديرها أباطرة يتاجرون بأولياء الأمور، ويرتكبون جرائمهم تلك بصورة علنية، بل تخترق دعايتهم جميع وسائل ووسائط الإعلام حتى جدران العواصم وحوائط المترو، فهناك «وحش الكيمياء»، و«ديناصور الأحياء»، و«إمبراطور الفيزياء».. وصارت لهم سكرتارية لحجز المواعيد، وفرق عمل وسائقون ومسئولو دعاية وفرق موسيقية للترفيه عن «الزبائن» إلخ.. كل هذا والحكومات كأنها لا ترى شيئًا مما يجرى!!

هل أدركتم لماذا لم يحتفِ المعلمون المصريون بعيد المعلم العالمي؟ لأنه لم يعد معلمًا بالصورة التي يجب أن يكون عليها المعلم الأصيل؛ تلك الصورة التي نجدها متجسدة في شخص النبي محمد الذي يقول الله تعالى عنه: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 151]، فهو هنا معلم رباني،  يقوم بتطهير الأنفس وتربيتها على الخير، وتعظيم الشريعة في وعى طلابه، وتنفيرهم من المحرمات. ولقد أثنى النبي على المعلم بقوله: «إن الله وملائكته ليصلون على معلم الناس الخير، حتى النملة في جحرها والحوت في البحر»..

ومُعَلِّمٌ على هذه الصورة لا شك أن الله سيبعث إليه تلميذًا على شاكلته، تجد هذا في سورة الكهف في الحوار الذي دار بين موسى والخضر (عليهما السلام) قال المتعلم للمعلِّم: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) [الكهف: 69]، ومما أُثر عن «الشافعي»: (كنت أتصفح الورقة بين يدي مالك رحمه الله صفحًا رفيقًا هيبة له لئلا يسمع وقعها). رحم الله السلف الكريم.

عامر شماخ

كاتب صحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى