اصطفى الله (تعالى) من الملائكة رسلًا ومن الناس، ثم فضّل بعض النبيين على بعض، ومن هؤلاء المصطفيْن: سيدنا إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) الذي اتخذه الله خليلًا؛ (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) [النساء: 125]، والخلَّةُ هي كمال المحبة، فلِمَ هذا الحب وذلك الاصطفاء؟
كان لإبراهيم (عليه السلام) فضائل لا تُعدّ جعلته يحظى بتلك المكانة عند الله حتى صار أمة: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل: 120]؛ أي قائدًا وإمامًا ومعلِّمًا لمن بُعث فيهم ولمن يأتي بعده، ولِمَ لا وكلُّ الأنبياء والرسل بعده كانوا من نسله المبارك، فهو أبو الأنبياء، قال العلماء: ولما أتمَّ ما أُمر به -وكان ابتلاء صعبًا- جعله الله إمامًا؛ (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة: 124].
وإننا -نحن المسلمين- أوْلى الناس بهذا النبي؛ (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 68]، فملته هي الحنيفية السمحة، أي المنافية للشرك، وهي دين الإسلام، دين الأنبياء جميعًا، القائم على التوحيد، والإخلاص، والانقياد لله، وتعظيم الأمر والنهي، والولاء والبراء، والدعوة إلى الله بالحجة والمنطق؛ (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ…) [الحج: 78].
فهو (عليه السلام) أسوة المسلمين وقدوتهم؛ (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ…) [الممتحنة: 4]، دينُهم دينُه، وملتُهم ملتُه؛ (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [آل عمران: 67]، (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل: 123]. وهو (عليه السلام) حريص علينا؛ إذ كان الوحيد من بين الأنبياء الذين قابلهم النبي ليلة المعراج الذي سلّم على أمتنا؛ فلذا يسلِّم عليه المسلمون في كل تشهّد ردًّا على سلامه وامتنانًا لهذا الصنيع.
ولقد أحبَّه نبيُنا ﷺ حتى سمّى ابنه باسمه، وكان يعرفُ فضله ومكانته؛ فقد ناداه رجلٌ يومًا قائلًا: يا خير البرية، قال ﷺ: «ذاك إبراهيم عليه السلام»، وعن ابن عباس (رضى الله عنهما): «قام فينا رسول الله ﷺ يخطب فقال: «إنكم محشورون حفاة عراة غرلًا: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وإن أول الخلائق يُكسى يوم القيامة: إبراهيم الخليل».
قيل في إبراهيم (عليه السلام): (لم يكن في الأولين ولا في الآخرين أخوف لله منه)؛ (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات: 111]، (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة: 114]، وقيل: كان يحبُّ ربه حبًّا لم يدع في قلبه محبة لأحد، وكان (عليه السلام) صادقًا؛ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) [مريم: 41] وفيًّا؛ (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم: 37]، كريمًا؛ (فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) [هود: 69]، ولا يتسع المقام لذكر الآيات الواردة في فضائله، غير أنه يمكننا القول إنه كان شخصية ربانية، ذا إيمان وصبر ويقين، مخلصًا ثابتًا، عاش لدعوته وضحى في سبيلها كأعظم ما تكون التضحية.
وكان (عليه السلام) مسلمًا إيجابيًّا متحمسًا؛ فقد احتقر الأصنام ومن يعبدونها، بل قام بتحطيمها؛ قَالَ (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الأنبياء: 54]، مبادرًا غير متردد ولا هيَّاب؛ (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 79]، جريئًا في الحق ذا حجة ومنطق؛ (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 258]، (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام: 83]. [يتبع].