مقالات

عامر شماخ يكتب: هل يعود الإخوان أم انتهى مشروعهم؟

يُرحُ هذا السؤال منذ فترة في كثير من الأوساط؛ لِمَا جرى من محنة عظيمة لم تستثن أحدًا من الإخوان المسلمين، كمحاولة جديدة من العسكر لاستئصالهم ومنع عودتهم إلى الحياة السياسية والاجتماعية، يقول طرفٌ: إنهم غُيِّبوا بشكل مؤقت وسيعودون أقوى مما كانوا مثلما حدث في مِحَنِهم السابقة، ويقول الطرف الآخر: بل انتهى مشروعهم إلى الأبد؛ إذ المحنة هذه المرة هي الأقسى، كما لم يعد لهم رصيد لدى الجماهير. دعونا نحررْ أولًا مصطلحي الإخوان ومشروع الإخوان –حسب أدبيات الجماعة وقناعات أعضائها-؛ ليمكننا الحكم الصائب على الأمور، وتقدير أيِّ الرأيين هو الصواب.

فالإخوان المسلمون –حسب ما جاء في لائحتهم العامة-: (هيئة إسلامية جامعة تعمل لإقامة دين الله في الأرض، وتحقيق الأغراض التي جاء من أجلها الإسلام الحنيف؛ ومما يتصل بهذه الأغراض: تبليغ دعوة الإسلام إلى الناس جميعًا، وإلى المسلمين خاصة، والعمل على رفع مستوى معيشة الأفراد، وتنمية ثروات الأمة، وتحرير الوطن الإسلامي بكل أجزائه من كل سلطان غير إسلامي، وقيام الدولة الإسلامية التي تنفِّذ أحكام الإسلام، ومناصرة التعاون العالمي مناصرة صادقة في ظل الشريعة الإسلامية التي تصون الحريات وتحفظ الحقوق).

أما مشروع الجماعة فيقوم على ركائز الحضارة الإسلامية العامة المتمثلة في: (الإيمان بالله تعالى بكلِّ شُعبِ الإيمان، والعلم بكل فروعه، الديني والمدني، والعمل الجيد المتقن، والجهاد في سبيل الله والاستعداد لردّ أي عدوان، والاجتهاد والتفنن لتحرير الإنسان من المخاوف والأوهام، وتأمين العيش الآمن والحياة الكريمة التي تليق بآدميته).

من هذين التعريفين يتضح أن جماعة الإخوان في أساسها فكرة، تقوم على الإسلام السُّنِّيِّ الصحيح، قبل أن تكون كيانًا أو شخصية اعتبارية ينبثق منها التنظيم الذي يضم الأقسام والفروع والوحدات والقطاعات والمكاتب والمناطق، كما هي في الواقع -ومنذ أُنشئت- تعدُّ مظلة لقطاع كبير من المسلمين. وإذا كان المؤسس قد عرّف الجماعة بأنها: دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية وثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية. فعلى هذا الأساس يسع مشروعهم الحضاري الأمة جميعًا، و(يلتقي عنده آمال الجميع: الدعاة على اختلاف وسائلهم، والمصلحين بشتى مذاهبهم، والشعوب المستضعفة التي لا حول لها ولا قوة).

أمّا أنّهم غُيِّبوا فقد غُيِّبوا قسرًا بفعل باطش لم يعتدّ بعُرفٍ إنساني أو قانون وضعيٍّ، لكنهم لم يُغيَّبوا لضمور في حركتهم أو تلاشٍ لفكرتهم، بل العكس صحيح فإنهم فُتك بهم وهم في أوج قوتهم، وفي زمن استطالتهم. وأما أن مشروعهم قد انتهى بهذا الغياب فهذا مما لا أوافق عليه أصحاب هذا الرأي، وأشكِّك في أدلّتهم التي توحي لهم بهذا الغروب الإخواني؛ إذ لا يزالون بمقام الغائب الحاضر، الذين يُذكرون في كل محفل، ويُشارُ إلى كرسيِّهم الخالي في كل مجمع، كما لا يزالون يمثّلون كابوسًا مرهقًا للنظام رغم مرور عقد كامل على المحنة، وأسوق لذلك أدلتي:

فأولًا: ينصّ منهج الإخوان على تلك التحديات، وأنهم سيخرجون من محنة ليدخلوا في أخرى؛ إذ لا يقوم مصلحٌ بمثل ما يقومون إلا أُوذي، فتربّى الفردُ الإخواني على احتمال المشاقّ، وتوقُّع العقبات، مدركًا محاولات الأنظمة لإخراجهم من ساحة التأثير المجتمعي، وإقصائهم من الواجهات العامة، إقليميًّا ومحليًّا، ولو بالقتل، لأجل تمرير المشروعين: الغربي والصهيوني، وللهيمنة على مقدّرات الأمة، فهو –أي الفرد الإخواني- يتحصّن ضد هذه المحن والعقبات بالإيمان العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل وحسن التوكل على الله، كما قال «البنا»: (إن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ، تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى: قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلوُّنٌ ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه، والمساومة عليه، والخديعة بغيره).

ثانيًا: لأن تاريخهم، على طول سنينه وتتابع دوراته، يشهد بذلك الصمود، وأنهم بعد كل محنة يخرجون أقوى مما كانوا، حيث يذيع صيتُهم، ويعلو صوتهم، وتتمدد دعوتهم، والمقام لا يتسع لتفصيل ذلك، لكنّ الشواهد تؤكد حدوث ذلك –مثلًا- بعد حلِّهم في 8 ديسمبر عام 1948 ولهم 2000 شُعبة في أنحاء البلاد غير شُعب الخارج، وبعد مقتل زعيمهم في 12 فبراير 1949، وبعد القبض والتنكيل بمتطوعيهم في حرب فلسطين.. ومن يبحث في التاريخ يُفَاجَأ –رغم تلك المحنة القاسية- بحضورهم الطاغي ومشاركتهم القوية في أحداث 52 وما بعدها…

والأمر ذاته تكرر في الخمسينيات والستينيات، وقد أُعدم منهم ستة، ودُفن المئات في صحراء «مدينة نصر» بعد قتلهم في السجون، غير نحو سبعين ألف معتقل في بلد تعداده 44 مليون نسمة حينها، وقد وُضعت خطة مُحْكَمة لاستئصالهم بتعاون جميع أجهزة الدولة.. لكن ما إن يزول نظام «عبد الناصر» حتى تكون صحوة ترتجُّ لها الأرجاء، ويكونون هم من يشعلونها ويوجّهونها ويصلون بها إلى البرلمان والنقابات وسائر الساحات السياسية والاجتماعية والدعوية…

فكأن هذه الجماعة تكبر بالمحنة، وهي لا تتمناها بالطبع، لكنها أقدار الله حتى يُعلَمَ المفسد من المصلح.. وهذا عين ما حدث بعد حكم «مبارك» أيضًا؛ إذ بعد ثلاثين عامًا من التضحيات (50 ألف معتقل، 4 شهداء، سبع محاكمات عسكرية، مصادرات، قضايا متنوعة إلخ) خرجوا من ذلك بقيادة الثورة، وبتمكين لم يشهدوه من قبل، وبشهرة بلغت الآفاق، فتردد اسمهم في كل بيت، وعلى كل لسان. وفي اعتقادي أن المحنة الأخيرة لن تختلف عن سابقاتها، بل أظن أنهم ينتظرون تقديرًا أكبر على قدر قسوة وبشاعة هذه المحنة.

ثالثًا: قد لا تعلم الأنظمة الغبية، أو تعلم لكنها لا تفهم، أن سجن الإخوان، أو اضطرارهم للهجرة، يمثل ذخيرة لجماعتهم، ومحضنًا جيدًا لدعوتهم.. في المحن السابقة انتشرت دعوة الإخوان في 80 بلدًا، بمسميات مختلفة، بتأثير المُطارَدين الذين لجئوا إلى هذه البلاد، وكان جُلُّ المربّين الربانيين في الجماعة ممن قضوا مددًا في السجون، فحفظوا كتاب الله، وتدارسوه ثم بلّغوه كما فهموه لأجيال من بعدهم جمعت بين العلم والفهم، والعمل لدين الله بتجرّد وإخلاص.

رابعًا: ولا تعلم تلك الأنظمة أيضًا أن الناس –دومًا- يتعاطفون مع المظلوم، ويقفون في جانب المعارضين، فما بالك إذا كان هؤلاء المعارضون شرفاء، وقد آكلوهم وشاربوهم وخالطوهم وعلموا أنهم أنظف الناس يدًا، وأعفّهم وأطهرهم، فأعطوهم أصواتهم في كل جولة من جولات الانتخاب. ويعلم الناس أيضًا أن الإخوان ليسوا أصحاب مطامع، بل يصفونهم بأنهم أهل الله، وهم كذلك، ثم يرون حجم التنكيل الواقع بهم وبصورة لا يصدقها عقل فيزداد تعاطفهم معهم، وينتظرون ساعة الشهادة فيشهدون لهم.

خامسًا: على أثر حملات الهجوم على الإخوان وتردد اسمهم في وسائل الإعلام في كل لحظة.. عُرف للكافة كيان اسمه الإخوان، فمن أدرك حقيقتهم أحبّهم وتعاطف معهم، ومن صدّق كذب الأنظمة فإن هذا التصديق لا يدوم، إذ الحق أحق أن يُتبع، والله يهدي إلى سواء السبيل، فإن كثيرين يتحولون بالتعاطف مع الجماعة، فكأن ما بنته الأنظمة المستبدة في سنوات وأنفقت عليه الملايين قد ذهب في وقت محدود هباء منثورًا، وقد رأينا أثر ذلك في التظاهرات المليونية وفي اعتصامات الميادين، رغم توحش الدعاية الانقلابية حينها.

سادسًا: وقد جرّب شعبنا جميع الاختيارات، فلم ير فيها سوى الفساد والاستبداد، والفشل والتبعية، وقد قُسِّمت الأمة وهُدد السلم المجتمعي، فصار الإخوان خيار قطاع كبير من المصريين ممن يرونهم متجرّدين، ولا ييأسون، ولا يساومون، ولا يعقدون الصفقات، بل يصمدون أمام الطغاة ويواجهون الفاسدين، ولا يخشون أحدًا إلا الله، وأنهم صمّام أمان للمجتمع؛ وإذ غُيبوا فقد كثُرت الخبائث، وعمّ الغلاء والبلاء، وطغت في مجتمعنا الآفات الخُلقية ودواعي الرذيلة والتفسُّخ المجتمعي.

عامر شماخ

كاتب صحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights