بحوث ودراسات

عبد الجليل هزبر يكتب: أنواع القدر

القدر قدران:

قدر شرعي،

وقدر كوني،

القدر الشرعي هو الذي يكون فيه للإنسان إرادة وفعل في الحياة، ويترتب عليه ثواب وعقاب، فأنت مخير أن تفعل خيرا أو تفعل شرا، مخير أن تجر لنفسك نفعا أو تجر لها ضرا، مخير أن تكون صالحا أو تكون طالحا، مؤمنا أو كافرا، شقيا أو سعيدا!

فهذا القدر يحدده فعل الإنسان ويصنعه الإنسان لنفسه بكل إرادة وحرية، ودون تدخل من القدرة الإلهية!

وهذا القدر هو الذي يعلمه الله وأحاط بعلمه قبل أن يفعله الإنسان، فهو يعلم منذ الأزل من يكون مؤمنا أو كافرا، صالحا أو طالحا، سعيدا أو شقيا!

وهذا القدر يتحمل الإنسان نتيجته لأنه من فعله وصنعه، فمثلا الإنسان يمشي مسرعا بسيارته فيتعرض لحادث مؤلم، هذا الحادث هو قدر من أقدار الله، لكن الإنسان هو الذي تسبب به وجره لنفسه، وهذا القدر هو الذي قال الله عنه:{ وَمَاۤ أَصَـٰبَكُم مِّن مُّصِیبَة فَبِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِیكُمۡ وَیَعۡفُوا۟ عَن كَثِیر}.

فهو قدر يدخل في علم الله ولا يدخل في فعله كما قال الله:{مَاۤ أَصَابَ مِن مُّصِیبَة فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِیۤ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِی كِتَـٰب مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَاۤۚ إِنَّ ذَ ٰ⁠لِكَ عَلَى ٱللَّهِ یَسِیر}.!!

القدر الثاني: هو القدر الكوني، وهو الذي يتعلق بفعل الله في هذا الكون من تقدير الأرزاق، وتقدير الأعمار، والموت والحياة، وما يصيب الإنسان من خير أو شر ولا يكون للإنسان أي تدخل في جلبه، وإنما يستطيع أن يدفع قدرا بقدر، فيدفع قدر المرض بقدر التداوي، وقدر البلاء بقدر الدعاء وهكذا، وهذا القدر هو الذي قال الله عنه

:{ مَاۤ أَصَابَ مِن مُّصِیبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَمَن یُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ یَهۡدِ قَلۡبَهُۥۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیم}،

ويشمله كذلك قول الله:{مَاۤ أَصَابَ مِن مُّصِیبَة فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِیۤ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِی كِتَـٰب مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَاۤۚ إِنَّ ذَ ٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ یَسِیر}.!!

🍀وهذا القدر ينفذه الله في الكون عن طريق ملائكة موكلين، فنفخ الروح في الإنسان قدر ينفذه ملك موكل به كما جاء في الحديث:(.. ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ؛ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ..)

والموت قدر من أقدار الله له ملك مخصص بقبض الروح عند انتهاء الأجل: { قُلۡ یَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ ٱلۡمَوۡتِ ٱلَّذِی وُكِّلَ بِكُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ تُرۡجَعُونَ }.!!

كذلك إنزال الوحي، وارسال الرياح، وإنزال المطر، وإنبات الزرع، وتقسيم الأرزاق، وتدبير الأمر، أقدار ينفذها ملائكة موكلون بذلك، كما قال تعالى:{ وَٱلصَّـٰۤفَّـٰتِ صَفّا (١) فَٱلزَّ ٰجِرَ ٰتِ زَجۡرا (٢) فَٱلتَّـٰلِیَـٰتِ ذِكۡرًا (٣) }،

وقال:{وَٱلذَّ ٰرِیَـٰتِ ذَرۡوا (١) فَٱلۡحَـٰمِلَـٰتِ وِقۡرا (٢) فَٱلۡجَـٰرِیَـٰتِ یُسۡرا (٣) فَٱلۡمُقَسِّمَـٰتِ أَمۡرًا (٤)}،

وقال: {وَٱلنَّـٰزِعَـٰتِ غَرۡقا (١) وَٱلنَّـٰشِطَـٰتِ نَشۡطا (٢) وَٱلسَّـٰبِحَـٰتِ سَبۡحا (٣) فَٱلسَّـٰبِقَـٰتِ سَبۡقا (٤) فَٱلۡمُدَبِّرَ ٰتِ أَمۡرا (٥)}

وهذا النوع من القدر هو الذي أمرنا الله أن نؤمن به ونسلم له، لأنه قدر محتوم، كما جاء في حديث جبريل: (…وأن تؤمن بالقدر خيره وشره).!!

🍀هذا النوع من القدر الذي ينفذه الله عن طريق ملائكته هو الذي نقول أنه يمكن أن يتجسد ويظهر بصورة بشر أحيانا لأغراض معينة كما سيأتي، والمشاهد التمثيلية للملائكة في القرآن والسنة كثيرة ومتنوعة.!!

فهذه مريم عليها السلام أرسل الله لها الملك الموكل بنفخ الروح ليهبها غلاما زكيا، فجاءها متمثلا بشر سويا: {وَٱذۡكُرۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مَرۡیَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانا شَرۡقِیّا (١٦) فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابا فَأَرۡسَلۡنَاۤ إِلَیۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرا سَوِیّا (١٧) قَالَتۡ إِنِّیۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِیّا (١٨) قَالَ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَـٰما زَكِیّا}.!!

والملائكة الذين نزلوا بقدر الوحي على إبراهيم ولوط عليهما السلام أتوا إليهما بصور بشر، فلم يعلما بحقيقتهم حتى أخبرتهم الملائكة نفسها، قال تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ . فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ . فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ)،

وقال تعالى :{ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ }.

والمشهد الثمثيلي للملائكة الذين نزلوا بأقدار التأييد والنصر للمؤمنين في غزوة بدر تجسدوا بصور بشر، كما قال تعالى: {إِذۡ یُوحِی رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ أَنِّی مَعَكُمۡ فَثَبِّتُوا۟ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ۚ سَأُلۡقِی فِی قُلُوبِ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُوا۟ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُوا۟ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَان}.

والمشهد التمثيلي للملكين الذي حصل مع داود عليه السلام، ورغم دخولهما الغريب عليه من فوق السور، لم يعرف أنهما ملكان وأن ما قاما به هو مشهد تمثيلي إلا في نهاية المشهد، قال تعالى:{وَهَلۡ أَتَىٰكَ نَبَؤُا۟ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُوا۟ ٱلۡمِحۡرَابَ (٢١) إِذۡ دَخَلُوا۟ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُوا۟ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡض فَٱحۡكُم بَیۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَاۤ إِلَىٰ سَوَاۤءِ ٱلصِّرَ ٰطِ (٢٢) إِنَّ هَـٰذَاۤ أَخِی لَهُۥ تِسۡع وَتِسۡعُونَ نَعۡجَة وَلِیَ نَعۡجَة وَ ٰحِدَة فَقَالَ أَكۡفِلۡنِیهَا وَعَزَّنِی فِی ٱلۡخِطَابِ (٢٣) قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِیرا مِّنَ ٱلۡخُلَطَاۤءِ لَیَبۡغِی بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَقَلِیل مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّ رَاكِعا وَأَنَابَ (٢٤)}

والمشهد التمثيلي للملك الذي تمثل لموسى عليه السلام بصورة العبد الصالح في سورة الكهف ليريه كيف تجري أقدار الله وألطافه بعباده، والذي رغم ملاقاته له في مكان غير مأهول، وبجانب صخرة وسط الماء في مَجمَع البحرين وقد مر عليها موسى ومكث عندها ولم يجد عندها أحدا، ومع هذه الأجواء الغريبة في الملاقاة والأفعال غير المألوفة التي رأها موسى من الرجل والتي توحي بأن العبد الصالح ليس إنسانا عاديا، لم يكتشف موسى أنه ملك وليس إنسانا إلا في النهاية عندما وضح له سبب أفعاله ثم قال:{وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا}.!!

أما في السنة فنشير إلى حادثتين فقط لتجسد الملائكة بصورة بشر

حديث عُمَر بْن الْخَطَّابِ في البخاري، قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ والذي قال النبي في نهايته: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم.

والحادثة الثانية: قصة اختبار الأبرص والأقرع والأعمى من بني إسرائيل المروية في البخاري ومسلم، وفيها أن ملَكاً بعثه الله على صورة بشر ليختبرهم .

ختاما.

 الملائكة الذين ينفذون أقدار الله الكونية والذين وصفهم الله بقوله:{بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون}، قد يتجسدون ويظهرون على صورة بشر إما لغرض التطمين والتثبيت كما في قصة مريم ومعركة بدر،

أو لغرض التبشير كما في في قصة إبراهيم ولوط،

أو لغرض الاختبار والتنبيه، كما في قصة الخصمين مع داود عليه السلام.

أو لغرض التعليم كما في قصة موسى والعبد الصالح، وحديث جبريل،

أو لغرض التمثيل كما في خبر الدعاء والقدر يعتلجان بين السماء والأرض فيرد الدعاء القدر.

هذا توضيح للذين التبس عليهم القدر الشرعي بالقدر الكوني في مقالنا السابق عن القدر المتكلم،

 لعلهم يفقهون. والله أعلى وأعلم.

قال تعالى:{قَدۡ جَاۤءَكُم بَصَاۤىِٕرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِیَ فَعَلَیۡهَاۚ وَمَاۤ أَنَا۠ عَلَیۡكُم بِحَفِیظ (١٠٤) وَكَذَ ٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ وَلِیَقُولُوا۟ دَرَسۡتَ وَلِنُبَیِّنَهُۥ لِقَوۡم یَعۡلَمُونَ (١٠٥)}

✍️عبد الجليل هزبر

8/5/2023

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى